12 أكتوبر 2009

قراءاتكم: الأدب والارتياب (قراءة سليمان المعمري)

قراءاتكم: كتاب "الأدب والارتياب" لعبدالفتاح كليطو (قراءة سليمان المعمري)


هل "ألف ليلة وليلة" كتاب ممل؟

من يصر على اعتناق المقولة الرائجة عن كون النقد عملية تالية للإبداع فما عليه إلا أن يقرأ دراسة واحدة للناقد المغربي عبد الفتاح كليطو ليوقن أن النقد أحياناً نص إبداعي محكم يدهشك ربما أكثر مما تدهشك قصيدة أو قصة أو رواية جميلة .. في "الأدب والارتياب" الصادر عن دار توبقال للنشر عام 2007 يواصل كليطو نبشه في التراث العربي شعراً وسرداً وفلسفة ومقامات متوغلاً في مناطقه الجمالية التي استُكشف بعضُها ، وبقي الكثير بانتظار عين خبيرة قادرة على الغوص في عمق النص كعين كليطو .. يحوي الكتاب عشر دراسات نقدية مستقلة يجمع بينها رابط ظاهر أحياناً ومتوارٍ أحيانا أخرى هو الارتياب .. ففي الدراسة الأولى بعنوان "نموذج" يُلفتُنا كليطو إلى أن هذا الارتياب هو أساس العلاقة بين الكاتب والقارئ ، هذه العلاقة التي تصل إلى حد العداوة .. قد لا يكون القارئ عدواً صريحا – كما يقول المؤلف – إلا أنه في الخفاء يبحث عن الثغرات ونقاط الضعف بهدف التهجم على الكتاب والنيل من مؤلفه .. ويستشهد كليطو في هذا الصدد بعبارة الجاحظ في "الحيوان" : "وينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء" .. والكاتب هنا " يعرف أنه محل ريبة لمجرد أنه يكتب ، فكأنه مقترف لذنب يجب التكفير عنه ، ولذلك تراه يتودد إلى القراء ويفاوضهم سعياً منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم " ، ويضرب كليطو مثالاً بالجاحظ نفسه : "ولا أعرف مؤلفاً اهتم بالقارئ العدو كما فعل الجاحظ ، فهو يشركه في مشاريعه ويدعو له ( "حفظك الله".. ) ، ( "أكرمك الله" ) ، وفي كل لحظة يلتفت إليه ليتأكد من انتباهه ويذكي اهتمامه " .. وفي الدراسة الثانية "صورة البخيل بطلاً " يدعونا كليطو إلى تناول كتاب "البخلاء" للجاحظ من زاوية أخرى تختلف عن الزاوية التي تناوله بها معظم من كتبوا عنه ، وهي زاوية كونه كتاباً في ذم البخل والبخلاء ، مستشهدا بلوم ابن قتيبة ، معاصر الجاحظ ، له على نزعته إلى قول الشيء وضده .. انه أيضاً كتاب – طبقا لهذه النزعة الجاحظية - في مدح هؤلاء البخلاء والارتفاع بهم من مجرد أشخاص مُحْتَقَرين ومُستَخَفٍّ بهم إلى أناس يدفع بهم تقشفهم وزهدهم وبلاغة خطابهم في الدفاع عما يعتنقونه (البخل) إلى مرتبة الحكماء والعارفين .. إنهم قوم " زهدوا في الحمد، وقل احتفالهم بالذم" فبخيل الجاحظ يرفض المسلّمة القائلة أن الكرم فضيلة والبخل رذيلة ، ولا يخفي ريبته في الحكايات التي تروى عن الكرام وجودهم ، بل ويحتقر الأشعار التي نظمت في تمجيد ما يعتبره "الإنفاق المفرط" ..
في دراسته الثالثة "الرقيب " يثير عبدالفتاح كليطو ارتيابنا في "طوق الحمامة" لابن حزم .. إن "الطوق" الذي نقرأه اليوم ليس هو بالضبط "الطوق" الذي ألفه ابن حزم .. هكذا يتوصل كليطو لهذه النتيجة من شرارةِ ارتياب قدحتْها فيه مقدمة محقق "الطوق" حديثاً الطاهر أحمد مكي الذي صرح أنه كاد أن يُهمل فقرات منه خشية ألا يتقبلها القارئ المحافظ .. يقول كليطو إن قراءته للكتاب بعد تحذير المحقق: "لم تعد بريئة ، صرت ألعب دور الرقيب أو المتلصص ، أتصفح الطوق بهدف اكتشاف ما فيه من مقاطع مشبوهة" ، ثم يطرح الناقد المغربي التساؤل التالي : " هل يختلف القارئ العربي اليوم في القاهرة مثلاً عن القارئ في قرطبة خلال القرن الخامس الهجري ؟ .. إذا أخذنا بهذا الرأي ينبغي أن نضيف أن الكتابة بدورها تغيرت ، لأن القراءة والكتابة مترابطتان . ولكن هل تغيرت الكتابة حقا ؟ ألم يكن ابن حزم متخوفاً من ردود فعل القراء ، تماما كما يتخوف محققه اليوم ؟ أليس الكتاب بكامله موضع ريبة ؟ أليس مسألة الرقابة موضوعه الأساس ؟ " .. ثم ينتبه مؤلف "الأدب والارتياب" إلى أن رسالة "طوق الحمامة" لم تصلنا إلا عبر مخطوطة فريدة أنجزت بعد ثلاثة قرون من وفاة ابن حزم .. غير أن ما يثير الانتباه أكثر أن ناسخ الرسالة صرح أنه قام بـ " حذف أكثر أشعارها ، وإبقاء العيون منها ، تحسيناً لها ، وإظهاراً لمحاسنها ، وتصغيراً لحجمها ، وتسهيلاً لوجدان المعاني الغريبة من لفظها " .. يعلق كليطو على ذلك بالقول : " قد لا يكون هذا البتر المتعمد مدعاة للأسف الشديد بالنسبة للأذهان الكسولة التي غالباً ما تقفز على الأشعار المصاحبة للنصوص النثرية . لكن من يُلغي الأشعار ( "أكثر أشعارها" ) قد لا يكتفي بذلك ، ولهذا فان الارتياب وارد بأن الناسخ قد يكون حذف أيضاً أخباراً وأقوالاً وأفكاراً لا تلائم ذوقه أو اعتبرها جريئة مزعجة . " .

من دراسات "الأدب والارتياب " الممتعة كذلك دراسة بعنوان " الليالي كتاب ممل ؟ " يحلل فيها كليطو أسباب الاهتمام المتأخر جداً من قبل العرب بسِفْرهم الضخم "ألف ليلة وليلة" .. ومن الجدير بالذكر هنا أن موضوعة "الليالي" هذه ظلت موضوعة أثيرة دوما لعبدالفتاح كليطو الناقد ، فعلاوة على دراسته الطويلة في كتاب سابق عن هذه الليالي والمعنونة "العين والإبرة" ، فان "الليالي" تحضر دائما وبشكل لافت في دراساته الأخرى حول السرد العربي ( ومنها هذا الكتاب الذي تحضر "الليالي" في خمس من دراساته العشر ، اثنتان منها بشكل مباشر هما : "الليالي كتاب ممل ؟ " و"في كل سنة كذبة" ، في حين يأتي حضورها في الدراسات الثلاث الأخريات : "نموذج" و"الاغتراب" و"المتطفل حي بن يقظان" على هيئة إشارات واستشهادات وان لم تكن هي الموضوع الأساس ) .. يؤكد كليطو في هذه الدراسة ( الليالي كتاب ممل ؟ ) أنه بدأ حرفته كقارئ – وهو لما يزل طفلا - بهذا الكتاب ، " إلا أنني لا أذكر إطلاقا أنني أُعجبتُ بهذه الحكاية أو تلك " ، ويؤكد أنه ما كان ليعود إلى "الليالي" بعد ثلاثين سنة لولا ما رأى من كثرة الإحالات إليها من قبل كتّاب غربيين قرأ لهم ( بروست ، فولتير ، ديدرو ) .. ويذهب كليطو أبعد في القول انه يمكن ببساطة تخيل الأدب العربي بدون "الليالي" ، ولكن لا يمكن تخيله بدون المعلقات أو المقامات .. ويشير إلى أنه في تواريخ الأدب العربي لا تدرج "الليالي" في أي باب من الأبواب المعتمدة عادة ، ولا تذكر إلا في نهاية المطاف ، وتبرئة للذمة ، بجوار "ذات الهمة" ، وبجوار "سيف بن ذي يزن" ، أي مع أعمال وضعها أيضا غير محدد .. بل ان ابن النديم في "الفهرست" يقول عن "ألف ليلة وليلة" : " وقد رأيته بتمامه دفعات ، وهو بالحقيقة كتاب غث ، بارد الحديث " ، مؤكداً كليطو أن ابن النديم يردد على الأرجح الرأي العام لأدباء عصره .. والسؤال الآن : ما سر تجاهل الثقافة العربية طوال كل هذه العصور لواحد من أهم رموزها ؟!! .. يجيب عبدالفتاح كليطو على ذلك بالقول إن "الليالي" كتاب لا يفي بأيٍّ من مميزات النصوص الكلاسيكية التي صارت مراجع ومستندات يرجع إليها ، فهو بدون مؤلف ، وفي الثقافة العربية نص بدون مؤلف شيء شاذ ونادر ، وهو نص شفاهي ويقدم نفسه أو يمثل في روايات مختلفة ، وأسلوبه عامي دارج على عكس الأسلوب الرفيع الجزل للنصوص العربية الكلاسيكية ( وان كان لا يأنف دائماً من السجع ) ، ثم انه لا يشرح وليس موضوع تعليم نظراً لما يحويه من حكايات تتعارض مع الدور "التربوي" الذي تنشده النصوص الكلاسيكية .. غير أن الذي كان وراء سوء حظه وطالعه في الماضي – يضيف المؤلف – هو الذي وراء سعادته اليوم ، حيث بات الكتابَ العربيَّ الذي يترجم أكثر .. ويخلص كليطو إلى القول انه بفضل الأوروبيين اكتشف العرب فجأة ذات يوم أنهم يملكون كنزاً كانوا يجهلون قيمته ! .
خلاصة القول إن "الأدب والارتياب" كتاب لا يمكن للقارئ أن يبدأ به ويتركه جانبا .. انه سياحة ثقافية ممتعة ومدهشة تتنقل بنا برشاقة مذهلة بين الجاحظ ، والحريري ، وابن حزم ، وابن رشد ، وابن طفيل ، والمعتمد بن عباد ، وغيرهم من رموز ثقافتنا .. رشاقة لا تكتفي باستحضار هؤلاء وأولئك، بل تقدم رؤية جديدة لمنجزهم الثقافي والفكري ..وهو أمر غير مستغرب على ناقد مبدع كعبدالفتاح كليطو .


سليمان المعمري
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

1 comments:

غير معرف يقول...

أمتعتنا يالمعمري

كفيت ووفيت ... آلمني ما كتبت عن حال طوق اليمامة...

وبالفعل يمكننا تخيل الأدب العربي بدون (الليالي) كما صرّح كيلطو ...

أظنني قرأت لك عمودا في العام الماضي حول نفس
الفكرة.

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.