09 نوفمبر 2009

تحقيق قرائي في ملحق شرفات

ثمة كتاب بين يديك الآن..تحقيق قرائي في "شرفات"


نشر ملحق شرفات في عدده الأخير الصادر بتاريخ (4 نوفمبر 2009) تحقيقًا جميلا عن الكتب التي يقرؤها بعض الكتاب والمثقفين في عمان. أجرت التحقيق الصحفية والقاصة هدى الجهوري، التي تكرّمت بإعطائي الإذن بنشره هنا.


ثمة كتاب بين يديك الآن
« شرفات » تقترب بفضول مما يقرؤه الكتــــاب
استطلعت آراءهم: هدى الجهورية

بالتأكيد ثمة كتاب بين يديك الآن.. أو دعنا نفترض ذلك على الأقل.. ربما بدأت بقراءته قبل أيام أو أشهر أو حتى سنوات.. ربما أنت في بدايته أو في أوسطه أو أوشكت على إنهائه..
نحن في «شرفات» وبفضول كبير أردنا أن نقترب من الكاتب القارئ ليخبرنا عن الكتاب الذي بين يديه الآن: اسم الكتاب وكاتبه، ودار النشر وكيف حصل عليه.. بالشراء أم بالاستعارة؟ هل يشعر بمتعة معه، أو يقرأه على مضض؟ ما موضوع هذا الكتاب، وحول ماذا يدور؟ وماذا في خطة قارئنا أن يقرأ في المرات القادمة من كتب؟
استطلعنا آراء الكتاب لاعتقادنا كما قال القاص مازن حبيب في رسالته لنا: «أن لدى القارئ فضولا لما يقرأه الكتّاب عموماً، وهذا الفضول قد يكون حاضراً بين الكتاب لمعرفة ما يقرأه أقرانهم أيضاً».
••• شاركنا الكاتب عبدالله بن حبيب بقوله: «تشرفت بطلب كريم من الزملاء الأعزاء في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء لتقديم ورقة حول العلاقة بين الفلسفة والسينما في أمسية من المزمع أن تعقدها الجمعية في منتصف الشهر الجاري للاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة للمرة الأولى في البلاد، ولهذا فإن معظم القراءة (وإعادة القراءة) الآن يتركز على الفلسفة والسينما. وهي ليست قراءة (وإعادة قراءة) كتب بأكملها، بل قراءة فصول معينة، وحتى صفحات معينة، بل أحياناً فقرات معينة فقط، من تلك الكتب. يعود ذلك إلى أني لم أقرر لغاية الآن منهجية مشروع الورقة، بل إني لم أحدد ما إذا كان عليها أن تكون أكاديمية صرفاً، أم شبه أكاديمية، أم تاريخيَّة مسحيَّة، أم انطباعيَّة، أم غير ذلك؛ إذ أن هناك أسئلة عسيرة ينبغي الإجابة عنها قبل البت في الأمر. أقوم بهذه القراءات بالإنجليزية؛ وأنا إنما أقول هذا في هذا السياق تعبيراً عن خجل وغضب عارمين لأنني «اكتشفت» انه لا يوجد كتاب واحد – واحد فقط – عن الموضوع في المكتبة العربية حسب معلوماتي، وكم أتمنى أن يأتي إليَّ من يقول إنني مخطىء (باستثناء ترجمة واحدة يمكن إثارة الكثير من التحفظات عليها لكتاب جيل دولوز المعروف حول الموضوع). ألا يبعث هذا على الفزع والرغبة في الاندثار؟!.
في الشق الفلسفي،إذاً، فأنا «أقرأ» – بالمعنى الذي ذكرت – ما يتيسر لي وما أردتُّ من الأعمال الكبرى لفلاسفة من المعروف أن لأعمالهم تأثيرا واعٍيا أو غير واعٍ على النظرية والممارسة السينمائيتين مثل ماركس (الذي ألهمت أعماله نظرية آيزنشتاين في «المونتاج الــــديـــالـــكتيكي») وميشيل فوكو (المُنَظِّر الأكبر للـ «النظرة» في تاريخ الفكر السياسي)، وأدورنو وهوكسهايمر (اللذان عبَّرت أعمالهما عن احتقار كبير لمظاهر الثقافة الرأسمالية والصناعية بما في ذلك السينما).
وفي الشق السينمائي أجول – بسرعة المتسوِّق العجول في غير قليل من الحالات - في كتب مثل «نظرية السينما» لروبرت ستام وتيد ميلر، و«نَحْوُ السينما» لدانييل أريجون، و«معنى السينما» و«شكل السينما» لسيرجي آيزنشتاين، و«خطاب العين: فيمينيولوجيا للتجربة السينمائية» لفيفيان سوبشاك، و«فلسفة السينما» لإيان جارفي، و«فهم السينما: منظورات ماركسيَّة» لمايك وين، و«الدِّين والسينما» لميليني رايت»، و«تاريخ للفيلم السردي» لديفيد كوك، و«السرد، الأداة، الأيديولوجيا» لفيليب روسن، و«الفلسفة والسينما» لسينثيا فريلاند وتوماس وارتينبيرج، و«في داخل النظرة: الفيلم الروائي ومُشاهده»، و«إعادة توجيه النظرة: الجَنْدَرْ، النظرية، والسينما في العالم الثالث» لدايانا روبن وإيرا جافي، و«دليل أوكسفورد للدراسات السينمائية» لجون هِلْ وباميلا غيبسون، و«العالَم منظوراً إليه: تأملات في انطولوجيا السينما» لستانلي كافيل. كما أطوف في العدد الصادر في خريف 1998 من الفصليَّة المحترمة «خطاب: دوريَّة للدراسات النظرية في الميديا والثقافة» المخصَّص لجيل دولوز. وأتصفح مقالات ذات صلة بالموضوع منشورة هنا وهناك وأحتفظ بصور منسوخة منها مثل مقالة سارتر عن فيلم أرسون ويلز الشهير «المواطن كين».
ولا شك أني سأقرأ - إن استطعتُ - أية أعمال جديدة لمن بقي حياً من أولئك المؤلفين؛ ولكن للأسف ليس منهم جيل دولوز الذي انتحر، ولا ستانلي كافيل، علَّامة جامعة هارفارد العتيد الذي كان كتابه العمل التأسيسي لبحث العلاقة بين الفلسفة والسينما في وقت باكر.
إنني أشعر بمتعة وغيظ مع هذه القراءات: «متعة» لأسباب هي أوضح من أن تذكر؛ و«غيظ» لأن الأمر باح لي أن قراءاتي الفلسفية كانت متواضعة في السنوات الأخيرة، بحيث شعرت أني غريب عن أعمال تأسيسيَّة قرأتها برعاية أكاديمية عالية وقدمت عنها بحوثاً وأوراقا معقولة إلى حد ما في فترة الدراسة.
أما عن قراءات الفترة القادمة فإنني أخطط (ولكل تخطيط ممكن إحباط ممكن) أن يكون فيها كثير من التركيز (الممكن) على الشِّعر النَّبطي الذي ازداد حبي واستعذابي له، وشغفي ووجعي وجهلي به، في الفترة الأخيرة. سيكون البدء مع روائع راشد الخضر الغراميَّة بمساعدة صديق باحث متخصص من خورفكان.
ليست تجربة مثيرة
•••أرسل لنا القاص مازن بن حبيب رسالة يقول فيها: «في الواقع فكرت في اليومين السابقين بهذا الأمر، ووجدت أنني قرأت مجموعة متفرقة من الكتب في الفترة الماضية دون أن أنهيها، ودون أن تكون تجربة قراءتي لها، مثيرة أو يمكنني أن أتحدث عنها بحماس، بما قد يفيد أو يمتع.
لكن في موضوع قريب من هذا، قبل مدة وجيزة، كنت قد رشحت لمدونة أحمد المعيني، أكثر من حياة، عشرة كتب للقراءة، وجميعها من قراءات سابقة».
ثم أخبرنا قائلا: «حسناً.. هذه القائمة ليست قائمةً بأفضل عشرة كتب، إذ لا أجرؤ أن أجمع عشرة كتب في قائمة واحدة وأقول أنها أفضل عشرة كتب، حتى وإن كنت أعني أفضل عشرة لدي، لأن أمراً كهذا سيتطلب مني قراءة عدد كبير جداً(لا معدود تقريباً) من الكتب، وهذا ما لا تمكنني قراءتي البطيئة من فعله، لأستخلص أن من ذلك الكم خرجت قائمة بعشرة عناوين، لكنها بل بكل تأكيد عشرة كتب أرشحها للقراءة، دون ترتيب تفضيلي حاسم، في هذه اللحظة، أي بإدراك الوعي الراهن، والانطباع الذي تركته القراءة الأخيرة لكل من هذه الكتب، على ثقة وأمل بأن أكثر الكتب تأثيراً لم أقرأها بعد..».
وعدد لنا الأعمال قائلا: رواية «شرق المتوسط» لمؤلفها (عبد الرحمن مُنيف) رواية «زوربا» لمؤلفها (نيكوس كازانتزاكي)، ترجمة: جورج طرابيشي، ورواية «حفلة القنبلة.. الدكتور فيشر من جنيف» لمؤلفها (جراهام غرين)، ترجمة: بتول الخضيري، ورواية «النفق» لمؤلفها (إرنستو ساباتو)، ترجمة: عبدالسلام عقيل، رواية «دميان.. قصة شباب إميل سنكلير» لمؤلفها (هرمان هسه)، ترجمة: ممدوح عدوان.
ورواية «اللجنة» لمؤلفها (صنع الله إبراهيم)، والمجموعة القصصية «القط الأسود» لمؤلفها ( إدجار ألن بو)، ترجمة: خالدة سعيد، وكتاب «فن الحرب» لمؤلفه (صن تسو)، ترجمة: كامل يوسف حسين.
وكتاب «النحت في الزمن» لمؤلفه (أندريه تاركوفسكي)، ترجمة: أمين صالح، وكتاب «Emotional Intelligence» لمؤلفه (Daniel Goleman).
نشاط إنساني أم تكليف إلهي!
••• الكاتبة جوخة الحارثيه شاركتنا بقراءتها: «كنت في القاهرة، وكان هذا الكتاب بانتظاري، كان غلافه أسود وكان مصطفا بانتظام أجبر عليه مع كتب أخرى في رف مكتبة، وحين سحبته ودفعت ثمنه لم يعارض، فتنزهنا معا في شوارع القاهرة المزدحمة وشربنا شايا بالقرفة، صفحاته الداخلية رقيقة وبيضاء، ورائحة حبره قوية والوجه النصفي الأبيض لمؤلفته يطل من غلافه الأسود، ولأن عينها حالمة فقد قلت للكتاب إننا سنصبح أصدقاء فلا يمكن أن تكون العيون الحالمة خادعة. بعد ذلك قام الكتاب ببعض الرحلات الخفيفة، رحلة في إجازة العيد إلى الشرقية، ورحلة إلى البحر، ورحلات أخف من المكتبة إلى الصالة إلى الغرفة، ولم تتغير النظرة الحالمة في غلافه، فمارجريت أتوود الكندية قد ألفت الكثير من الكتب قبل أن تؤلفه وهذا أكسبها خبرة فوضعت صورتها بطريقة مؤثرة حقا. وكما لاحظت طفلتي فالكتاب خال من الصور، كلمات متراصة وحسب، لكن الطريف أن الكتاب هو عن هذه الكلمات بالذات، إنه كتابة عن الكتابة، ويعيد طرح الأسئلة التي ربما قد تكون قد خطرت في بالك يوما أو أنها – إن كنت سيء الحظ – تظل تلح عليك كل يوم. تقول المؤلفة إن كتابها عن الكتابة رغم انه ليس عن كيفية الكتابة وهو أيضا ليس عن كتابة شخص بعينه أو عصر محدد أو بلد دون آخر. إنه عن الموقف الذي يجد الكاتب نفسه فيه والذي قلما يختلف من كاتب إلى آخر (لا أفهم معنى الجملة الأخيرة). إذن يناقش الكتاب ماهية الكتابة، هل هي نشاط إنساني أم تكليف الهي؟ هل هي مهنة أم عمل مضجر من أجل المال؟ (من الواضح طبعا أن الكاتبة ليست عربية لربطها بين كلمتي كتابة ومال)، ولماذا يشعر بعض الناس أنهم مجبرون على أدائها؟ وكيف تختلف عن الرسم مثلا أو التأليف الموسيقي أو الغناء والرقص والتمثيل؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي بررت عنونة الكتاب: «مفاوضات مع الموتى تأملات كاتب حول الكتابة»، لا أعرف لماذا اختارت المترجمة ترجمة كلمة writer في العنوان وهي مشتركة بين المؤنث والمذكر في اللغة الانجليزية إلى صيغة المذكر في الترجمة العربية مع أن المؤلفة أنثى، والمترجمة اسمها عزة مازن، فهي أنثى أيضا، لكن ربما وجدت كلمة كاتب رنانة أكثر من كلمة كاتبة.
تأملوا معي هذا التحليل الجميل:« في بداية قصة أليس في المرآة (تحيل الكاتبة هنا إلى الكتاب الثاني بعد أليس في بلاد العجائب) تبدو أليس في جانب من المرآة ولنقل انه جانب الحياة بينما نقيض أليس، أي صورتها المنعكسة، على الجانب الآخر أو جانب الفن، فجانب الحياة ينظر إلى الداخل بينما ينظر جانب الفن إلى الخارج، ولكن بدلا من تحطيم المرآة ونبذ جانب الفن من أجل جانب الحياة الملموس المتألق، ويصبح الفناء مصير الفن، ذهبت أليس إلى الجانب الآخر، فدخلت المرآة وعندئذ أصبحت هناك أليس واحدة، فبدلا من تحطيم قرينتها امتزجت أليس الحقيقية مع أليس المتخيلة».
لم أنته من الكتاب بعد، لم يخيب أملي في الحقيقة، ولكنه لو كان فاتنا لما استطعت التوقف عن قراءته والانشغال في الوقت ذاته بكتب أدبية وأكاديمية، لكن مما قرأته حتى الآن أحببت وصف المؤلفة لطفولتها، وراقتني الإحالات الكثيرة في حديثها لأعمال أدبية أخرى، وشدني زخم الحركات الأدبية في شبابها، وتخيلت أننا نعيش زخما شبيها في عمان، كان حلما بهيجا.
بين درويش والموسيقى
••• كتبت لنا آمنة الربيع هذه الرسالة، وقد أشارت في بدايتها أنها رسالة قابلة للنشر: «أقدر ذكاءك عاليا. كيف عرفت أن ثمة كتابا بين يدي الآن. والأجمل ما في الأمر أنني لا أحترم أبدا من يتلصص عليّ، لا من القريب ولا البعيد. لكن تلصصك يثير فضولي ويُمتعني. فأنت تعرفين بأن الكتاب الذي اقرأه «ربما بدأت به قبل أيام أو أشهر أو حتى سنة..» وهذا يرفع من نسبة الذكاء التي يتمتع بها اللصّ الذكي، وهنا أنا كما ترين أيتها العزيزة، أُفرق ما بين الحرامي واللصّ. ولكن بقدر الذكاء المعهود الذي أعهده فيك، فأنت تتركين لي فضح أسراري الخبيئة. بكل لطف وكياسة لا تفصحين عن هذا الكتاب لأحد. لا لنفسك ولا لآمنة الربيع نفسها. ويمنحني هذا شعورا بالراحة النسبية. لاسيما في قولك «ربما أنت في بدايته أو في أوسطه أو أوشكت على إنهائه .. ولا أدري من أين واتتك الجرأة على تذكيري بهذا الفعل. فأنا حين أشاهد فيلما في السينما لا يُعجبني كثيرا وأكون محشورة بين الناس ولا أملك الهروب مثلا، فلا أراعي شعور الحضور، فأنام. لا أنام فعليا وإنما أغفو غفوة، وحدث ذلك معي في أدنبرة، العجوز المدخنة، أما حين ابدأ بقراءة كتاب، فقبل أن أصل إلى أوسطه أكون قد التهمتُ صفحاته الأخيرة. لا أدري لماذا أفعل هذا، ربما رغبة في كشف النهاية مبكرا، أو ربما ينتابني الشعور ببعض الملل الذي قد أصادفه في غابات السرد، فلا أحب أن أكافئ نفسي بنهاية فاترة أو باردة. وهذا يحدث مع الروايات. أذكر أنني حذفت بحدود خمس مرات بعض الروايات من نافذة شقتي إلى الشارع! أما القصص القصيرة فلا أتعامل معها بهذه الميوعة. وفي المسرح يحدث العكس تماما. فأنا لا أنهي النص دفعة واحدة، لأن النصوص المتوفرة عندي قليلة جدًا، أنهيتها كلها وانتهى الأمر.
سأحاول أن أكشف لك تفاصيل الكتاب الذي اقرأه بنهم شديد في المطبخ وأنا أعد قهوتي الحميمية، وفي الحديقة وفي السيارة وفي غرفة النوم وعلى أريكتي الدافئة، كما أنني أضعه تحت وسادتي كي أنتبه في لحظات الذهاب للوظيفة، لأخذه معي في الحقيبة الخاصة بأوراقي ومسودة كتاباتي.
كتابان وليس كتابا. لا يعني هذا بأنني كنت أكذب عليك. الكتاب الأول يمكن أن يكون أيّ كتاب لمحمود درويش فقط، وهذه الأيام اقرأ «يوميات الحزن العادي». صدر عن دار رياض نجيب الريس. وكنتُ قد ابتعتُ الكتاب من معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته السابقة. وكنت قد قرأته في عام 2008م، لكن بما أنني درويشية الهوى، فأنا أعيد قراءة كل ما كتبه، شعرا ونثرا. وفي كل قراءة أعيد اكتشاف ذاتي ولغتي ومعنى وجودي. لذلك لن أتحدث عن هذا الكتاب. بل سأخصص الحديث للكتاب الثاني. هو كتاب «دعوة إلى الموسيقى» للماسترو يوسف السيسي. لا أستطيع أن أفصل بين «الدعوة إلى الموسيقى، ويوميات الحزن العادي»، لأنني أبحث فيهما عن إيقاع خاص يوازي بين شعرية النثر ونقرات الموسيقى في جموحها الفاحش. أنا مولعة جدا بتذوق الموسيقى، وبالخصوص الكلاسيكية. كتاب «دعوة إلى الموسيقى» اشتريته عام 2001م، من أحد أكشاك الطريق المنتشرة على الأرصفة في الأردن. كان الكتاب هدية من السماء حقا. نُشر الكتاب بواسطة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت عام 1982م
بالنسبة للمتعة، فالكتاب يقدم دعوة لتذوق مفاهيم في الموسيقى العالمية. فأنا حين أرى شلال «جعفر» في محافظة ظفار في فصل الخريف يتساقط بقوة لا هوادة فيها، أو حين أرى موج البحر يتكسر على صخور «الخيص» البحرية في مرباط، أقدر أن أحول ما أسمعه من أصوات طبيعية إلى ألفاظ. فإذا أردت أن أصل مثلا إلى معنى الجموح في النفس البشرية فأقرب تشبيه أجده في منظر الموج وهو يتكسر فوق الصخور بلا هوادة. الطبيعة هنا تصبح بمثابة كتلة يحيط بها الظل والضوء. وهذا الجمال حين أحاول نقله للكتابة لا شيء يساعدني على استحضاره إلاّ الموسيقى الكلاسيكية.
هل تريدين أن أقرب لك الصورة أكثر؟ إليك هذه المقارنة المعقدة: في تايلند حين زرت حديقة وبحيرة التماسيح التي كنت أحبها، قمت بمشهد تمثيلي مع تمساح. حاولت أن أستغفله. علّقت السمكة وصرت أدورها بالحبل فوق رأسه لأكثر من عشر دقائق. صحيح أنني نجحتُ في إطالة الوقت لكنه انتبه لمتعتي الخفية وأجهز على السمكة، لم أنتبه إلا حين ارتفع بكل جسده الضخم وقظم السمكة الصغيرة. كم بدا التمساح الضخم ضئيلا وتافها، وهو يُجهز على سمكة صغيرة نافقة!. أرجو أن تركزي معي الآن، إنّ صوت إطباقة فك التمساح على السمكة هي ما سيطر على وجداني. لا يمكن لي نسيان تلك الإطباقة المفترسة. سأنقل هذه الإطباقة إلى الموسيقى فأشبهها بالقفلة الرهيبة من حيث الضخامة التي أقفل بها الموسيقار الروسي Mussorgsky قفلته في إحدى كلاسيكياته الفخمة.
أحيانا كثيرة أشعر بأن هذا الكتاب لا يمكنه أن يمنحني المتعة الخالصة إلاّ إذا توفرت عندي أيضا المعزوفات الموسيقية. لذلك كلما سافرت إلى أي مكان أحرص بشدة على اقتناء الأسطوانات الموسيقية. ومن ميزات الكتاب العظيمة مثلا هي أنني لا أحبّ بيتهوفن كثيرا، قدر حبي لشوبيرت وهو موسيقيِّ المفضل، وفانجلز، والأخير موسيقار معاصر. أتعاطف مع بيتهوفن كحالة فكرية وباتزان كبير، لكنني حين أنصت لكونشرتاته فلا أقاوم نفسي. لا ينجح بيتهوفن كثيرا في نقلي إلى جذبات الصوفيين أو أجواء الطقوس الأفريقية، لكن أجدني متورطة في حبه، وفي احترامه، كما تورطت في حبّ سيد درويش. قبل هذا الكتاب ما كنت أستطيع التمييز بين معنى الكونشرتو والســـــــيمفونية، لكن بعد قراءته والقيام ببعض التطبيقات العملية صرت أستطيع التمييز عاليا، وهذا الجهد كافأت به نفسي في رسم كثير من المشاهد المسرحية في نصوصي المتأخرة، مثل نص «عابر أقل» ونص «الذين على يمين الملك». حاولت فيها الاستفادة قدر المستطاع من تنمية الحس الموسيقي بلحظات الصمت وآلات النفخ. في نصّ «الذين على يمين الملك» وظفت هذا الصمت في اللحظات قبيل الأخيرة لغلق المشهد. مثلا: في الأركسترا كنت أنزعج من وجود آلة ضخمة تكون جالسة بكسل وزهو كهيئة العروس الظفارية على المنصة تدعى «الكونترباص» بعد أن قرأت عن هذه الآلة زاد عشقي لرقدتها وكسلها. مسألة أخرى تتعلق بالنقد. في الآونة الأخيرة أخذت أركز على مفهوم التوافق النقدي مع الجرس الموسيقي، بمعنى أدق، صرت اقرأ وأكتب عن النصوص السردية التي أشعر فيها بهذا الشعور. باختصار أكتب عن النصوص التي أحبها فقط. حاولت أن أزاوج بين الموسيقى والسرد والمسرح والنقد عن طريق الكونشرتو ولم أكتشف وجود صراع درامي بين الكونشرتو والسيمفونية إلا بسبب بيتهوفن.
وفي تقديري المتواضع أن أي كتاب يتحدث عن الفنون بشكل عام حريٌّ بالقراءة التأملية والفاحصة. ألا تعتقدين ذلك؟ أشعر أنك توافقينني الرأي. وكتاب «دعوة إلى الموسيقى» إذا لم يكن القارىء يملك جهازا تأمليا ومتحررا من القوالب الجاهزة لأنماط الموسيقى المتوفرة اليوم، فلن يستمتع بقراءته على الإطلاق، ونظرا لما يقدمه الكتاب من معلومات تاريخية أيضا، سيشعر معها القارئ بثقل المادة التعليمية، بالإضافة إلى ضرورة توفر مكتبة موسيقية كلاسيكية ممتازة، تمكِّن القارئ المتذوق للموسيقى من ربط المعلومة بالمادة السمعية. لذلك صدقا لا أنصح القارئ بقراءته.. وختاما أيتها العزيزة، سأتركك لأنّ «يوميات الحزن العادي» الذي لا يفارقني حان موعد الإطباق على بهجته الرقيقة..

قراءة بالجملة
••• وشاركنا القاص سالم الحميدي برأيه قائلا: الحقيقة أنه خلال شهر رمضان المبارك كان هناك «تواطؤ» مع المبدع الصديق سلطان العزري لممارسة رياضة المشي بعد صلاة التراويح. كانت ساعة جميلة بلا شك مليئة بالأحاديث الثقافية، والإنسانية على حد سواء. «تواطؤ» سلطان العزري أعادتني خلال أغسطس من أوسع الأبواب إلى القراءات الأدبية الصرفة فما أن أقبل سبتمبر حتى بدأت في نبش تلك الكتب، وخلال ذلك تحصلت على باقة من إصدارات سردية عمانية حديثة.
خلال شهر أكتوبر نكشت العديد من الروايات ودوواين الشعر، ولأن طريقة قراءاتي تعتمد على قراءة أكثر من كتاب في الوقت نفسه (تعودت على هذه الطريقة منذ سنوات بعيدة أحسبها سنوات الدراسة والتحصيل في الإعدادية ثم استمرت معي في المراحل التالية)، وتوزيع الكتب في أنحاء شتى من البيت مما يسهل عليّ متابعة القراءة. فمثلا أضع رواية في الصالة الرئيسية للجلوس، ودورية في مجلس الرجال، وكتاب نقد في الصالة العلوية، وكتاب شعر في غرفة النوم. بهذه الطريقة كلما جلست في ذلك المكان أفتح على الكتاب الموجود، والذي وضعته مسبقا لهذا الغرض (كنت في البيت القديم أجلب مجموعة كتب إلى غرفة نومي، وقبل استراحتي أو قيلولتي، أو قبل نومي أفتح أحدها للقراءة) هذا الشهر لدي مجموعة للقراءة لكن ابرز ما أقرأه أو أعيد قراءته إذا شئتِ الصدق هي: رواية أبو زيد العماني لمحمّد الرحبي.. هذه مستمر في مطالعتها والخوص في شخصيتها من شهر رمضان المبارك باحثا في شخصية بطلها!!، ورواية سِفر التكوين لعبدالكريم غلاب (أقرب إلى السيرة الذاتية)، وكتاب دراسات بلاغية للدكتور: بسيوني عبدالفتاح فيود، ووضعت بجانب مخدة نومي الأعمال الشعرية الكاملة لعبدالله البردوني، والأعمال الشعرية الكاملة لمحمد القيسي إضافة إلى ديوان شعر المتنبي الذي غالبا ما يستلقي بجانب رأسي، وفي الغالب يشاركني أسفاري أيضا. أطالع هذا الشهر أيضا العدد الجديد من فصلية «التسامح» العمانية ببحوثها الجيدة وملفاتها الممتعة كدورية مرجعية جادة نفخر بها، وأطالع أيضا العدد الشهري الجديد من مجلة « العربي » الكويتية بموضوعاتها المتنوعة والمختلفة: أدبا وثقافة وسفرا واستطلاعا ومنوعات أعجبني مقال رئيس التحرير الشهري عن ثقافة الهزيمة وإن اختلفت معه في بعض الجزئيات فإن ذلك لا يفسد للود قضية، وأعجبني الشاعر المختار لهذا العدد السياب وأفجعني موته مجددا، وأعجبني بشكل خاص ملف العدد السردي، والذي لن أخبر عنه ليشترى العدد من الأسواق (هذه نصيحة حسنة ببلاش! وقليل في عصرنا الناصحونَ)، وبمناسبة النصح: أنصح القراء بتصفح والاطلاع وقراءة ما يلذ لهم وما يشتهون (وهذه أيضا مجانية والله من وراء القصد!)
الحقيقة إنّ معظم كتبي أحصل عليها بالشراء من المعارض التي أزورها: مسقط، الشارقة، القاهرة، طهران، وبعضها بالإهداء من الأصدقاء، وكما ترين فإن ما أقرأه يتوزع في المكان والزمان والنوع والكيف، وهذه الأخيرة كفيلة بأن تخبر بمداها لذلك فإن ما خصصته لشهر أكتوبر قد يمتد إلى نوفمبر وربما أنهي به سنة 2009م، أوقد يقاسمني رزق 2010م! من يدري؟ كثيرةٌ هي أحلامنا في القراءة، وأكثر منها مطاليب العمل والوظيفة الممضة، وتفاصيل البيت والعيال المختلفة والممتعة حد الجنون والتبعثر فالأطفال سِفر لا تمل مطالعته أبدًا أبدا!.

القراءة .. حالة متفردة

••• أرسلت لنا القاصة رحمة المغيزوية رسالتها قبل أسبوعين من تاريخ يوم النشر تقريبا تقول: اليوم فقط أصل إلى الصفحة الأخيرة التي تختم رواية واسيني الأعرج «سوناتا لأشباح القدس»، حيث أستطيع أن ألمس أن هنالك تناسخا لا متناهي للأشباح التي تسكننا وتحز فينا جرحا جديدا فوق جرح سابق لم يبرأ، عندها فقط يتجمع كل ما فقد ماهيته ليعيش في مدينة الله المقدسة.الرواية في طبعتها الأولى لعام 2009، صدرت عن دار الآداب للنشر والتوزيع في بيروت، وهذه الرواية كانت إهداء من إنسان عزيز، بعثها لي مع مجموعة رائعة من الروايات والمجموعات القصصية الصادرة في بيروت هذا العام.
وتابعت رحمة المغيزويه مستطردة: لا ريب أن هنالك تباينا غير قياسي لتحقيق المتعة في القراءة ولكن هنالك أيضا أمور غير المتعة يحققها القارىء من القراءة وربما يكون أحدها الاطلاع على مستويات البناء السردي الروائي والقصصي، إذا أن حكم القارئ أن الكتاب الذي بين يديه لا يحقق له المتعة المرجوة يعني بطريقة أو أخرى جانبا استدراكيا له لمزيد من المعرفة في كيفية تنقية أسلوبه مستقبلا من الشوائب التي تجعله بعيدا عن المستوى الذي يحلم به للرقي بمستواه الكتابي، وبالمجمل فإن « رواية «سوناتا لأشباح القدس»، تغوص في بعدي الغربة الداخلية والخارجية للشخصية المحورية مع ربط منطقي للتعصب والعنصرية اتجاه البشرية والذي ارتبط خطأ بالأديان والأعراق وتلك المسألة لها مكامن نفسية يناهضها الإنسان الموهوب برسم لوحة أو عزف موسيقي متألق وهذا ما يجعل الوطن في الرواية حلما ورديا لا نراه حتى في الأحلام وهو أمر يثير المتعة لدى بعض المتلقين العرب . يدور محور الرواية حول فنانة فلسطينية تضطر إلى ترك بلدها في بداية الاحتلال إلى أمريكا، وهي تعيش في الفترات الطويلة في حنين مستمر إلى صورة ذلك الوطن، ويضاف إليها في تلك الهجرة أشباح كل الناس الذين عايشتهم في القدس من الأهل والأصدقاء بالإضافة إلى وجه الحبيب الذي بدأ يتكون هنالك،وتبقى تلك الأشباح تطاردها وتعيش معها، حتى وهي تكتب بعض مذكراتها في المرض الأخير الذي ماتت به، ويشاطرها تلك الأشباح ابنها الوحيد، كما أنها تعيش تحدي أشباحها والموت من خلال رسم لوحاتها العديدة وتصل الغربة إلى حدود البكاء في الرواية عندما يذر ما تبقى من جسد – تلك الفنانة- كرماد عند مشارف أرضها . في العادة لا أقدم نصيحة لأي شخص ماذا يقرأ، لأن القراءة يجب أن تكون تجربة شخصية يمر بها الإنسان في حالة متفردة دون توجيه من أحد، ولكنني أرى أن لـ «واسيني» نكهة خاصة ربما تظهر لمن اطلع على باقي أعماله.
في هذا الشهر، أخطط جديا أن تكون قراءتي الصباحية منصبة على «إنجيل برنابا»، فيما ستكون القراءة المسائية في بعض النصوص القصصية للقاص «محمد المخزنجي».
مفاجآت البريد
••• وحدثتنا الإعلامية رفيعة الطالعية عن برنامج قراءتها الذي أرسلته لنا قبل أسبوعين من تاريخ نشر هذه المادة تقريبا قائلة: «بعد انتهائي أمس فقط من قراءة روايتها «عندما تستيقظ الرائحة» أتناول كتابها الثاني (السأم يتلون) كتاب يحوي قصصا قصيرة ونصوصا أخرى. كتابان ممتعان غير أني أقترب أكثر من الكتاب الأول (عندما تستيقظ الرائحة)، والكاتبة دنى غالي من مواليد البصرة عراقية هاجرت كلاجئة إلى الدنمارك في بداية التسعينات، وهي تكتب باللغتين العربية والدنماركية.
«عندما تستيقظ الرائحة» كتاب نشر عام 2006 عن دار المدى، والثاني (السأم يتلون) صدر عن دار طوى للنشر والإعلام، لندن، عام 2009،
لم أشتر الكتابين ،ولم أستعرهما، ولكنهما وصلا إلي فجأة بالبريد مرسلين من الكاتبة نفسها وهذه مفاجأة جميلة حصلت لي الأسبوع الماضي. تعرفت على الكاتبة الربيع الماضي هنا في واشنطن في مركز كندي للفنون عند تنظيمه مهرجانا للآداب والفنون العربية لثلاثة أسابيع، كان الأهم والأطول على مستوى الولايات المتحدة.
عودة إلى القراءة والكتابين، الرواية «عندما تستيقظ الرائحة» قرأتها بمتعة كبيرة واستغرقت القراءة يومين أو ثلاثة واعتبر ذلك معجزة بالنسبة لي بسبب أعباء العمل والبيت، أعجبتني الرواية لأنها تلامس أوتارا كثيرة بداخلي، دنى غالي كتبت روايتها عن أحوال المهاجرين العرب وتحديدا العراقيين وهجرتهم بسبب اللجوء السياسي نتيجة الأوضاع في العراق، وكيف هي حياتهم في بلاد باردة مختلفة في الطقس والثقافة وأسلوب الحياة، وتناولت الرواية التلقيات والتداعيات التي عاشتها شخصيات الرواية بسبب هذه الاختلافات، كيف يستوعب الرجل الثقافة الجديدة وكيف تستوعبها المرأة، وعملية الاندماج، وهو موضوع أثير لدى كل المهاجرين. العلاقات كيف بدأت هناك في الوطن وكيف تصدعت أو أعيد بناؤها في المهجر في الوطن الجديد.أما الكتاب الثاني الأحدث( السأم يتلون) فهو ممتع بطريقته، هو عبارة كما ذكرت عن نصوص وقصص قصيرة، وهي أيضا تدور في فلك غياب الوطن وحضور وطن بديل، تناقضات المكان والإنسان، وهو أيضا تنقل بين هنا وهناك، بين الأنا والآخر، بين الخيبة والأمل بين محاولات الهروب، ومحاولات الاستقرار. وأنا أتوقع أن أنتهي من قراءته قريبا، وعندما ينشر ملحق شرفات سأكون بصدد قراءة كتاب آخر.
الحقيقة لم أقرر بعد ماذا سأقرأ لاحقا، ربما تنتظرني مفاجأة جميلة أخرى هذا الأسبوع أو بعده، من مكان ما في العالم.

حصان طروادة
••• شاركنا الكاتب حشر المنذري بقوله: «إن نجاح فكرة لا يعني دائما صوابها.. فقد تنتشر الأفكار الخاطئة لمجرد أنها تلقى ترحيبا من غرائز الناس وأهوائهم.. ما أسهل تحريض الجياع على الشبعانين. ثم إن النجاح في جانب لا يعني النجاح في كل جانب. قد تنجح الثورة في بناء مصنع ثم تفشل في بناء إنسان».
مصطفى محمود
«لماذا رفضت الماركسية.. حوار مع صديقي الملحد». هذا الكتاب الذي استمتع بقراءته هذه الأيام، كاتب قديم استعرته من مكتبة والدي. وأما لماذا اخترته بالذات؟ فأعتقد أن هناك كتبا تقرأها مطالعةً أو استمتاعاً أو فضولاً، وهناك كتب تقرأها تقصدا، وهذا الكتاب أقرأه لأن موضوعه مهم جدا في هذه الأيام. الكتاب من القطع الصغير، وعدد صفحاته يصل إلى 90 ورقة، وهو عبارة عن حوار للدكتور مصطفى محمود مع خالد محي الدين وهو أحد الضباط الأحرار والذي نظّر للنظرية الماركسية في مصر في منتصف القرن الماضي.
لماذا استقصدت هذا الكتاب؟ بعد نكبة الرهن العقاري الأمريكي والأزمة المالية العالمية الأخيرة التي هزت أكبر القوى الاقتصادية العالمية، بدأ الكثير من الاقتصاديين والمفكرين يشككون في كفاءة النظرية الرأسمالية التي هيمنت على العالم. هذه الأزمة أخرجت الكثير من الشامتين في الرأسمالية والمطبلين للماركسية وللاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي أكثر اتزانا وعدلا وواقعية.
ولكن مصطفى محمود في هذا الكتاب لا يعري التطبيق، بل يطعن في أصول النظرية نفسها، ويفند عدة أخطاء قاتلة وقعت فيها النظرية الماركسية وهي:
أولا: اعتماد ماركوس على فترات تاريخية منتقاة توافق نظريته، وإهماله لفترات أخرى تطعن في نظريته، ولا يمكنه أن يطلق صفة التعميم على التاريخ بأكمله في تصوره المادي للتاريخ بانتقائية غير علمية.
ثانيا: تناقض الماركسية في أنها تدعو للعطاء والتضحية من جانب، وتحكم بمادية الأشياء من الجانب الآخر، والدين هو أكبر محفز للبذل عن طيب خاطر، وماركس يعتقد أن الدين أفيون الشعوب.
ثالثا: العامل الاقتصادي الذي جعل منه ماركس إلاها تصدر عنه كل الأشياء، وهذا غير صحيح، فهناك جوانب أخرى قد تكون أكثر أهمية للكثير من الناس كالجانب العقائدي والقومي والنفسي.
رابعا: كانت ديكتاتورية البروليتاريا (طبقة العمال) انتقال بالمجتمع من ظلم طبقي إلى ظلم طبقي آخر. فالهالة الأسطورة التي رسمها ماركس عن طهارة هذه الطبقة لم تكن صحيحة.
خامسا: شمولية الماركسية في إيجادها الحل لكل مشكلة، وفي ذلك تعتبر الناس تروسا يتحركون بنفس الوتيرة وهذا خطأ فادح.
ويطرح الدكتور مصطفى محمود الكثير من الأمثلة التطبيقية التي أكدت فشل النظرية نفسها في بقاع ومجتمعات مختلفة في العالم، فكلمة خرتشوف نفسه الشهيرة: «البقرة التي يملكها صاحبها تدر من اللبن أكثر من البقرة التي تمتلكها الدولة» هي أكبر دليل على فشل الماركسية كنظرية.
ثم يواجه بكل هذه الأخطاء خالد محي الدين والذي جعل من الماركسية حصان طروادة حسب ما يراه مصطفى محمود للدخول في المجتمع السياسي، وذلك بإعطاء بعد روحي وإسلامي للماركسية، فخرجت فكرة المنظمة الإسلامية الماركسية، ويرى مصطفى محمود تناقضا كبيرا في ذلك ويرد على محي الدين فيقول له:
«لو كان ماركس حيا، لاستلقى على قفاه من الضحك على هذه المنظمة ولبكى غما على ما جرى له ولفلسفته».
ولكن الجميل في هذا الكتاب أن مصطفى محمود أفسح في الجزء الثاني منه بنشر رد خالد محي الدين على الجزء الأول من كتابه، وهذه نقطة تحسب للدكتور مصطفى، فأنت ترى وجهة النظر الأخرى كذلك. وفي القسم الأخير من الكتاب عاد الكاتب للرد على رد خالد محي الدين.
ما يدعو لقراءة هذا الكتاب اليوم هي المحاولات التي تخرج هنا وهناك لترويج النظرية الماركسية مجددا بعد الأزمة المالية العالمية، والحقيقة أن فشل الرأسمالية المالية لا يعني أبدا صواب النظرية الماركسية كنظام سياسي، ولا الاشتراكية كنظام اقتصادي.
وما يثير القلق أيضا بعض الكتابات التي تظهر في مواقع الانترنت العمانية، والتي لا يمكن أن تسمى إلا إلحادية في جانبها الديني، وماركسية اشتراكية في جانبها السياسي والاقتصادي، وكأنها عينت محاميا عن ماركس تنظّر له وتدافع عنه بعد أن انحسرت نظريته في العالم أجمع. وللبعض من هؤلاء الكتاب الجدد أفكار وقراءات اشتراكية غير متكاملة، هم يرفضون الرأسمالية لسقطاتها واستغلالها ولكنهم لا يناقشون الاشتراكية بتناقضاتها وانهزاماتها.
أما المصيبة الكبرى فبعض الذين يضعون تلك الأطروحات على الشبكة حتى يستفزوا الآخرين للمشاركة في موضوعاتهم ومدوناتهم، حتى يصبح العضو صاحب الألف موضوع، والمدونة صاحبة المئة ألف زيارة!!
أعتقد أن هذا الكتاب يضع النقاط على الحروف في نقد النظرية الماركسية، ويطرح التساؤلات الكبيرة التي لم يستطع الماركسيون الإجابة عليها حتى الآن.
إن قراءة هذا الكتاب ممتعة جدا، وذلك للغة السلسة التي يكتب بها مصطفى محمود، والأمثلة التي أوردها. كما أن الكتاب يحتوي على صور لماركس ولينين وخرتشوف وخالد محي الدين.
أما المشروع القادم للقراءة فهناك قائمة طويلة تنتظر ولعل الإنترنت أحد الأسباب التي تأخر إكمال تلك القائمة، فهناك قلمان لبلال فضل، والصحافة فوق صفيح ساخن لسلامة أحمد سلامة، وواحة الغروب لبهاء طاهر، والمبيعات العملاقة لديفد كاوبر وتغطية الصحافة العربية للحروب للدكتور عبدالله الكندي
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.