29 مارس 2010

قراءات: رواية "Solar" لإيان مكيوان


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 24 مارس 2010)

رواية كوميدية..بنكهة التغير المناخي
عرض لرواية "Solar" لـ(إيان مكيوان)


بقلم: جيسن كولي
ترجمة: أحمد حسن المعيني


إن رواية "شمسيّ Solar" رواية مراوغة وساخرة تدور أحداثها حول عالم فيزياء و زير نساء إنجليزي بغيض اسمه (مايكل بيرد)، ألفنا أمثاله في روايات (إيان مكيوان Ian McEwan)، حيث شخصية العالِم أحاديّة البعد التي تخدع نفسها بنفسها، مثل (جو روز) كاتب المقالات العلمية الذي يسرد رواية "Enduring Love" أو (هنري بيرون) جرّاح الأعصاب بطل رواية "Saturday"، ولكنهم جميعًا ليسوا كريهي الطباع مثل (مايكل بيرد). ربما كان يجدر بمكيوان أن يكتب شيئًا يخالف التوقعات، أن يختار لبطولة روايته عالِمًا يملك حساسية فنية عالية مثل صديقه العالِم (ريتشارد دوكنز)، أو فنانا ذا طلاقة في لغة العلوم مثل مكيوان نفسه. إذن فمكيوان ما يزال مصرًا على الثنائيات الحدية التي تثير اهتمامه حيث الصراع والتفاعل بين المتضادات، فدائمًا ما يضع مكيوان في رواياته المنطق مقابل إبطال العقل، والعلم مقابل الفن،والعقل مقابل الجسد، والتقانة مقابل الطبيعة.

و (مايكل بيرد) الذي نعرف في الرواية أنه حصل على جائزة نوبل في الفيزياء في شبابه لوضعه نظرية تُسمى "نظرية بيرد-آينشتين المشتركة" هو رجل قصير بدين أصلع، مزواج، كثير الرغبات الجسدية، قليل انضباط النفس، يستهلك الطعام والنساء والشراب بنهم دون تفكر في العواقب. وهو إنسان يهوى النزوات السريعة يرعبه الالتزام ويخشى أن يصبح أبًا، فيعيش ليومه ومتعة لحظته. وسلوكه هذا يُعد مثالا لفرط الاستهلاك البشري؛ فمثلما يلتهم بيرد كل شيء حوله، نحن كذلك نلتهم عالمنا بموارده المحدودة وأنظمته الحيوية الهشة.

أما السمة المميزة للرواية ونقلتها الكوميدية الرئيسة فتتجسد في أنّ بيرد النهم الأناني الفائق الاستهلاكية يصبح خبيرًا في التغير المناخي وعلاقته بتطور البشر. ومن خلال خبرته كعالم فيزياء وبعد ذلك انتهازيته في سرقة الأفكار البحثية لطالب دراسات عليا يعمل معه في معهد علمي نعرفه باسم "المركز"، يُكلف بيرد بإدارة برنامج لإنشاء طاقة متجددة رخيصة عن طريق عملية تمثيل ضوئي اصطناعية (كي تفهم هذه العملية تحتاج لقراءة الشرح العلمي في الرواية).

وأما المغامرة الكبرى التي يخوضها مكيوان فهي سرد هذه الرواية، والتي تقع في ثلاثة أجزاء وتحكي قصة تمتد ما بين عام 2000 إلى 2009 من وجهة نظر مايكل بيرد. وهذا الاختيار السردي موفق من ناحية النجاح في سرد الشروح العلمية، فمكيوان الذي يمتلك لغة الفنيين التهم كتب الفيزياء ودرسها جيدًا إلى مستوى يصل لمستوى الدكتوراة في الفيزياء، كما فعل في علم جراحة الأعصاب لروايته "Saturday"، وعلوم الموسيقى لروايته "Amsterdam" والبيولوجيا الجزيئية لرواية "Enduring Love". وهذا التعلم الذاتي لم ينعكس في سردٍ رتيب ثقيل، خاصة عند مقارنته برواية مثل "The Information" لـ(مارتن آميس)، حيث يبدو الحديث عن اللانهائية والثقوب السوداء والكواكب القزمة والفلك مُقحمًا وغير مقنع، في حين يبدو لدى مايكل بيرد جزءًا مُركبًا في وعيه.

في كتابات إيان مكيوان الأولى، في قصصه ورواياته القصيرة الغريبة التجريبية التي تحتوي على أبطال ذكور انعزاليين منحرفين جنسيًا، كان يكتب كما تُرى الشخصية من الخارج. وكانت شخوصه دائمًا ذكية جدًا، ذكورية على نحو عدائي، وكان دائمًا ما يتبع أبطاله الذكور الشباب في أفعالهم أكثر من أفكارهم، شارحًا اغترابهم وابتعادهم النفسي عن الواقع بطريقة تفصل نفسها عما تشرحه كمحققٍ يفحص جثة هامدة. كانت تلك الكتابات فارغة من العواطف، بحيث كانت قراءتها تبدو نوعًا من الفرجة على شيء ما. لقد كان مكيوان يبدو كأنه لا إحساس لديه تجاه شخوصه، بل كان يشرّحها كأنها فئران في معمل تجارب، وهكذا نجد، كما قال (جون أبدايك) عن مارتن آميس في سياق آخر: "مؤلفًا ذا عقل مشبع بالفظاعة"، إلا أنه يملك أسلوبا سرديًا قد يكون الأكثر انضباطًا ودقة واهتماما بالتفاصيل من بين جميع الروائيين البريطانيين المعاصرين.

إن أقسى روايات مكيوان، تلك التي يبدو فيها العنف فظيعًا وغير مبرر لأقصى حد هي رواية "The Comfort of Strangers"، وهي رواية قصيرة تحكي عن زوجين بريطانيين شابين منجرفين في أجواء من الوحشة والخوف، وتلك كانت نقطة التحول لدى مكيوان، حيث جاء بعدها بفترة طويلة من السكوت كاتبًا مختلفًا. لقد بقيَت نزعة القسوة، إلا أنها تشظت عند اصطدامها بإحساس أخلاقي وجمالي-وأنثوي أيضا- أكثر تعقيدًا. ومنذ رواية "The Child in Time" أصبح واقعيًا أكثر منه ما بعد حداثي، لديه نزعة القرن التاسع عشر في الاهتمام بالشخوص والأدوار المؤثرة والقصّ، وفي الماهيات والكيفيات والأسباب التي تغلف المآزق البشرية. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يكتسب اهتماما حداثيًا بالوعي، وبدأ يجرب طرقا مختلفة للتعبير عن جوهر ما أسمته (فيرجينيا وولف) "الجزء الحساس من العقل".

ومن هنا بدأ مكيوان يكتب من وجهة نظر داخلية، حيث الفكر يحدد السلوك، وبدأ أسلوبه يكتسب كثافة وصفية جديدة؛ فما كان يكتبه باختزال شديد أصبح يعبر عنه بتوسع وإسهاب. لم يعد مكيوان مولعًا بالصور المصغرة، إلا أنه كان ما يزال يهتم بالتفاصيل والتجارب المنغلقة على نفسها، كوصفه مثلا لركوب المنطاد في مقدمة رواية "Enduring Love"، أو اختفاء رضيع من سوبرماركت في رواية "The Child in Time" وهو مشهد يسجل حالة ارتباك قاسية تقطّع قلب أي أب أو أمٍ يقرآنه، أو ذلك المشهد الموسع في رواية "On Chesil Beach" حيث المتزوجان الجديدان "العذراوان" يحاولان ويفشلان في إتمام "الدخلة"، مما ينعكس سلبًا في عواقب وخيمة على حياتهما.

إلا أن الأمر الذي يجمع ما بين روايات مكيوان هو انشغاله بعشوائية السلوك البشري في عالم دارويني ما بعد ديني، ودائمًا ما يكون هناك حدث جلل مفاجئ غير متوقع أو إلغاز غامض مميت. في رواية "Solar" تأتي الكارثة حين يعود مايكل بيرد من رحلة إلى القطب الشمالي ليكتشف أن أحد طلابه في برنامج الدراسات العليا يلهو في منزله، فيبدو واضحًا أن هذا الطالب يقيم علاقة مع زوجة بيرد التعيسة المحبطة (حيث انتهت علاقة زواجهما إثر اكتشافها خياناته المتكررة)، وفي حالة الربكة تلك يقع الطالب أرضًا على رأسه "دون نفس، دون نبض". وبدلا من مساعدة الطالب أو طلب الإسعاف، يتدخل بيرد ليجعل المشهد يبدو وكأن الطالب قد قُتل، حتى يتهم أحد عشاق زوجته السابقين بقتله. ويستغل بيرد هذه الأحداث ليُخرج نفسه من زواجه، ويعاقب العاشق السابق، وينفخ الحياة في حياته العملية الساكنة وذلك بالاستيلاء على بحث الطالب في التغير المناخي والادعاء بأنه له.

تشبه هذه الرواية في أسلوبها رواية "Amsterdam" الفائزة بجائزة البوكر، خاصة في دقتها السردية وجوّها المؤنق ورغبتها في معاقبة الحمقى. ولكن "Amsterdam" كانت رواية قصيرة، بينما تبدو "Solar" وكأنها مُطّت لتصبح أكبر حجمًا، فالكثير من الجزء الأول الذي ينتهي بموت الطالب يبدو وكأنه تمرين على رسم المشاهد الطويلة دون غاية أو أثر واضح. أما القسم المطوّل الذي يحكي عن رحلة مايكل بيرد مع مجموعة من العلماء والفنانين والناشطين البيئيين إلى القطب الشمالي فكان الوصف فيه أكثر من اللازم، وهو يهدف في أغلبه إلى الإضحاك، حيث نجد مثلا بيرد يتبول خارجًا فيتجمّد شيئه، وفي مشهد آخر يكاد يتعرض لهجوم من دب قطبي. أما الكشف الفكري الرئيس للقارئ في رحلة القطب الشمالي فهو رؤيتنا كيف أن غرفة الأمتعة تتحول بعد أيام قليلة إلى فوضى عارمة، وهذا إسقاط على الجشع البشري حيث نأخذ نحن البشر كل ما نستطيع، متى ما استطعنا.

وفي الحقيقة فإنها مغامرة كبيرة أن يخلق الكاتب شخصية رئيسة كوميدية كريهة مشفقة على نفسها ذات أفكار شديدة التفاهة، ثم يترك القارئ هكذا متورطًا في صحبةٍ مع هذه الشخصية لحوالي 300 صفحة. في رواية "Atonement" نجد شخصية (بريوني) الروائية التي تهدف من كتابتها إلى "إظهار العقول المختلفة، حية كعقلها، تعاني من فكرة أن هناك عقولا أخرى حية مثلها". إن ما ينقص رواية "Solar" هو العقول الأخرى، الإحساس بوجود أشخاص آخرين غير بيرد حية مثله لديها شيء تقدمه. من دون هذه العقول يبدو الأمر -بعد فترة- وكأنك محبوس في غرفة صدى، لا تسمع إلا ترددات الصوت نفسه، تأوهات رجل بدين أناني في أواخر منتصف العمر ينخر في نفسه.



*نُشر هذا العرض في صحيفة "The Observer" البريطانية بتاريخ 14 مارس 2010، وهي ترجمة "بتصرف" حيث تم الاستغناء في الترجمة عن بعض الفقرات التي تفشي معلومات كثيرة عن تفاصيل الرواية، أو بعض المعلومات التي ارتأينا إمكانية الاستغناء عنها لأسباب تتعلق بمساحة النشر (المترجم).
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

2 comments:

غير معرف يقول...

Can't wait to read this author. Thank you for the translation. A question: why did you choose to translate the word "his thing" into
فيتجمّد شيئه
not عضوه؟

Abdullah~~
Nizwa

أحمد حسن المعيني يقول...

الأخ الكريم/عبدالله
أشكرك على التعليق والاهتمام..في الحقيقة جاءت الكلمة في النص الأصل "his penis" وكان يُمكن أن تُترجم إلى "قضيبه" "عضوه" "عضوه" "شيئه" أو أية كلمة أخرى تشير إلى العضو الذكري. ارتأيت استخدام "شيئه" تأدبًا، وهي مستخدمة في الأدب العربي.

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.