07 أغسطس 2010

قراءاتكم: رواية "غرف للإيجار" (قراءة: هدى الجهوري)


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 3 أغسطس 2010)


من يقرأ رواية "جوع"، ويعقبها برواية "غرف للإيجار"، بالإضافة إلى المجموعات القصصية التي تخص الكاتب محمد البساطي يكتشف أن كتاباته ترتبط بالفئات المسحوقة والمهمشة في المجتمع.
" الشقة في بيت قديم. من ثلاث غرف بكل غرفة عائلة. الباب الخارجي مفتوح ليل نهار. لا يوجد في الصالة ما يُخشى عليه، وكل عائلة تغلق باب غرفتها على نفسها وأشيائها..". هكذا يُدخلنا البساطي إلى الجو العام لروايته "غرف للإيجار" التي صدرت عن دار الآداب. يستعرض حياة بأكملها، من خلال الغرف التي تشرح أزمة السكن. فلم تعد الأسر تبحث عن شقة، بل تكتفي بغرفة واحدة، ضمن شقة تتشارك فيها أكثر من عائلة، بالإضافة إلى حمام وصالة مشتركة بين الجميع.

الغرف هي البطل الرئيسي في هذه الرواية. فهو لا يترك تفصيلا من تفاصيلها إلا ويذكره، الباب، القفل، مساحة الغرفة، الأثاث، فالعائلات المتنقلة بالكاد لديها سرير ودولاب كرسي وترابيزة. ينتقي بشرا من مهن وظيفية بسيطة للغاية فوّال، فرّان، ومشتغل على سكة الحديد، يحاولون جاهدين أن يبقوا متمسكين بهامش الحياة الضيق، ضمن أبسط الشروط المتاحة لهم حتى إن الواحد منهم قد يفقد خصوصيته في بيته لأن الغرباء يسكنون في الغرفة المجاورة تماما، كأنهم يعدون له أنفاسه وحركاته.

لغة البساطي بسيطة وسهلة إلا أنها مشحونة بالدلالات، كما يكتب الحوار بالعامية المصرية. تبدو اللغة ووصف الشخصيات مع حركة الحوار أشبه بمشاهد سينمائية. الشخصيات بسيطة، وأحلامها لا تتجاوز أن تعيش يومها، ليس لديها الكثير لتتحدث عنه. الرجال يميلون إلى الصمت، النساء الباقيات لحين عودة الأزواج يملن للتحدث كثيرا. يُضيء البساطي شخصية المرأة من الداخل أكثر مما يعتني بإضاءة شخصية الرجل، كما أنه يعتني بسرد تاريخها منذ طفولتها بتقنية "الفلاش باك"، بينما يقدم لنا الرجل في حاضره الآني. ربما لأن الرجل يتحرك خارج الغرف، بينما تتحرك المرأة داخلها. الغرف هي مكان الحكاية، أما الزمن فلا يسير في اتجاه واحد، بل يعود إلى الوراء، ويذهب سريعا إلى الأمام.

فاطمة والفوّال

تبدأ الحكاية بالحديث عن الغرفة الأولى بالطرف الأيسر التي يشغلها فوّال اسمه عوض عربته على ناصية البيت وزوجته تبيع العيش في كشك حكومي، وكان أول من سكن الشقة، يخرج البساطي من حديثه عن الشقة إلى اللقاء الذي جمع بين الفوّال، وفاطمة، و"الحلال" الذي ظلت تطالب به، لأنها زهقت من الكلام الكثير. يقع عوض عند رغبتها من أجل الحلال، فيفرش لها غرفة النوم بالفراش الذي كانت تحلم به طوال حياتها، الصالة كانت لهما والمطبخ والحمام، بينما الغرفتان المجاورتان مغلقتان، مع لافتة مكتوب عليها غرفة للإيجار.

كان الفوّال رجلا لا يهتم إلا أن ينال متعته، لا يصدق أن يعود عن عربة الفول حتى ينال منها ما يريد، وكان على درجة عالية من الغيرة، إذا لمحها تطل من الشباك يضربها ضربا مبرحا. تخشى فاطمة أن ترد عليه فيطلقها. تزوجت أمها أربعة، وكانت تضطر أن تكون في غرفة واحدة مع أمها والزوج، وتتعرض لنصيبها من التحرشات. الصالة هي فسحتهما التي يجدان فيها الراحة والمتعة معا "يا سلام..يا سلام الصالة دي فيها حاجة لله"، كما قال عوض الفوّال.

عطيات والفرّان

حضرت العائلة الثانية، عطيات مع فرشها القليل على عربة الكارو، إلا أن الغرفة كانت أصغر من أن تضم جميع أغراضها. تعود الحكاية إلى الوراء قليلا لتضيء قصة عطيات في غرفتها في الشقة السابقة، "تكدست بالأولاد الذين احتلوا الصالة للعب. الأمهات لا يزجرن الأولاد، وكان طبع عطيات أن تسمع الشتيمة وتمضي، بواب العمارة كان يحاول أن يغريها، ربما لأن زوجها يقضي وقتا طويلا خارج الغرفة، وصاحب البيت يطلب زيادة في الإيجار". لذا اضطرت أن تترك غرفتها السابقة. عاد البساطي أكثر إلى ماضي عطيات حيث كانت تعمل خادمة عند نوال ادخرت جزءا من راتبها لشراء المقعد والدولاب والسرير، والجزء الثاني كان والدها يأخذه منها أول كل شهر. كانت تبادل ماجد ابن السيدة نوال الود، وكانت بينهما رغبة متبادلة لتجريب الجسد.
عندما خافت عطيات من أن تكشفهما الأم صارت لا تعطيه إلا ظهرها فخف مجيئه إليها رغم اشتياقها له. لكن الحظ أخذها إلى الفرّان الذي كان يرقبها، وهي تشتري الخبز، فتزوجها. ذات يوم شب حريق في الفرن فاحترق وجه زوجها من الجانب الأيسر، أكلت النار أذنه وركن فمه وتهدل لحم خده. لكن الغريب أن الحريق ساهم في تغير العلاقة الباردة الجسدية التي كانت تجمعهما. كان لا يقربها كثيرا في الفراش، ولا يشعر بحاجته إليها، ولكن ما أن أصيب بتشوه في وجهه، حتى بدأ بلهاث محموم لإقامة علاقة جسدية معها، كأنه يرمم بها جسده المعطوب. هوسه الكبير بها ولّد لديها النفور، من دون أن تمنعه من الاقتراب منها.

تعرفت فاطمة على عطيات، فانفتح قلباهما لبعضهما. جلستا في أول لقاء في الصالة، حكت كل واحدة حكايتها للأخرى. التقى عوض زوج فاطمة بجاره الجديد بدوي زوج عطيات إلا أن علاقتهما لم تتوطد كما حدث مع الزوجتين. يُلمح البساطي، دون إسهاب كبير في التفاصيل إلى علاقة شاذة تنشأ بين فاطمة، وبين عطيات، تبدأ بمحاولات من عطيات، وتستجيب لها فاطمة بسهولة كبيرة، وهذا ربما يبرر نفور عطيات من زوجها، كما يبرر حاجة فاطمة إلى الحنان والغزل الذي كانت تفتقر إليه مع زوجها الفوّال.

هانم وعامل سكة الحديد

في الغرفة الثالثة دخلت هانم وابنها يوسف، عمره 6 سنوات، وزوجها عثمان الذي يعمل في سكة الحديد، بعد أن تنقلت هذه الأسرة كثيرا من مكان إلى آخر.

في الانتقال الثاني أعجبت هانم بصورة الرجل العاري الموجودة على جدار الغرفة، لم تستطع كشط الرسم لكي لا تدفع تعويضا للمالك، فغطت الصورة بالستارة لكي لا يراها ابنها الصغير يوسف. إلا أن الرجل الذي أعجبت به في الصورة تسلل إليها ليلا. ترجع الرواية إلى الوراء أكثر، لتخبرنا أن هانم عملت وهي صغيرة في أحد البيوت، ثم بدأت تفكر بالزواج، فرح والدها بالخطيب "عنده بيت ميري (أي حكومي)، ويقبض مرتب أول الشهر، عايزين إيه أكثر من كده". وهي أيضا وافقت عليه. لكنها كانت تريد فرح وفستان وزفة، إلا أن الجدع كان على قد حاله، جاءت زينب القرعة لتغني في العرس، واستأجرت لها أمها أرخص فستان.

يصور لنا البساطي هذه الغرف التي لا تكفل الخصوصية، لا يمكن الحصول عليها بسهولة، فقد طارت إحدى الغرف من يدي عثمان في يومين لأنه لم يدفع عربونا عندما ذهب ليحضر زوجته وابنه، وعندما اسودت الدنيا في وجهه، قبل أن يسكن في غرفة بدورة مياه مشتركة ليصبح الجار الثالث. في تفصيل دقيق، يطلب عثمان من زوجته ترك الجلابيب الواسعة، وارتداء الملابس القصيرة المغرية فترفض رفضا باتا ذلك.

الدخول إلى الغرفة الخطأ

عاشت النسوة الثلاث في وئام معا، لم يرتفع صوت شجار بينهن. بالرغم من أن هانم ظلت تشعر أنها غريبة بين فاطمة وعطيات، وغمزاتهن السرية. لم توافق على الاشتراك في إعداد الطعام أو حتى شرب الشاي معهن، وتتحجج أنها مشغولة، حتى زوجها لم يكن يميل للجلوس مع الرجلين الآخرين في الصالة. ولأن بدوياً لا يحصل على ما يريد من زوجته ذهب إلى حجرة مختنقة بالأنفاس، وشرب كثيرا تلك الليلة، عاد ودرجات السلام تهرب من تحت قدميه.

كثيرا ما كانت تطلب هانم من زوجها أن يغير موقع الترباس لكي يتمكن يوسف من الذهاب إلى الحمام، إلا أنه كان ينسى، وكانت تضطر لترك الباب مواربا لأجل ابنها. في تلك الليلة، وبعد أن شرب بدوي كثيرا، أخطأ الطريق إلى غرفته، ودخل غرفة هانم، فعلا صوت صياحها، ودخل الجميع دفعة واحدة.

ذلك اليوم فقط غير عثمان مكان الترباس المرتفع إلى أسفل ليكون مناسبا لطول يد ولده، لكي تغلق الزوجة بابها كل ليلة.

في الفصل الثاني نكتشف أن هانم وابنها استأجرا غرفة أخرى على السطوح، بعد أن اختفى زوجها عثمان، وتسبب في اكتئاب كبير لابنها يوسف، من دون أسباب واضحة.

عباس: الشخصية المعادلة

يقدم لنا محمد البساطي "غرف للإيجار" في فصلين، الفصل الأول يروي السارد العليم بضمير الغائب، بصيغة الحاضر بالرغم من أنه يذهب بكل شخصية إلى ماضيها البعيد الذي أوصلها إلى الراهن الذي تعيشه، ويمنح الشخصية مبررات قوية تدفع بها إلى الرضا بالحصول على غرفة بدلا من شقة. في الفصل الثاني تظهر لنا شخصية عباس الذي يتكلم بضمير المتكلم، يقول على لسانه: "غرفتي فوق السطح، تشغل ركناً من الجانب الأيمن، تطل على رأس السلم، أوارب الباب وأرى من رقدتي الأقدام التي تهبط وتصعد، وقد يمر يومان أو ثلاثة لا أرى قدماً، وعندما أراها أظل في رقدتي لا أتحرك"، يبدو واضحا أن عباس من مستوى آخر، فهو ليس فرّان أو فوّال، ولا يعمل في سكة الحديد، بل يملك شخصية واعية، ويحلم بكتابة مقالات جيدة، كما أنه لا يبدو كالآخرين المشغولين بيومهم واللهاث وراء لقمة العيش، بل هو معني بالآخرين إذ يتعاطف مع جيرانه، فنراه يساعد جارته عزيزة في تنظيف زوجها المشلول، ومن ثم يستمع لشكاوي هانم عن ابنها يوسف، ثم يتعاطف مع الموسيقي العجوز وحفيدته، التي ترافقه في جولاته الغنائية كل مساء.

الرواية لا تبتعد كثيرا عن الواقع المعاش، تغرق في تفاصيل الوجع الإنساني والتشتت الاجتماعي دون أن تقول ذلك صراحة، لم يأت البساطي بتفاصيل كبيرة عن حياة هذه الفئة المسحوقة، ولكنه ركز كثيرا على حياتهم الجنسية، وكأنها انعكاس حقيقي عن الجانب الأعمق في هذه الشخصيات.. بين من يضرب زوجته لأنه عاجز، وبين يريدها كثيرا لأنه مشوه من الخارج، وبين من يريدها في شكل آخر غير الجلابيب الواسعة.

عباس أيضا له جـرحه الخاص، فزوجته بعد طلاقها، حرمته من رؤية ابنته، وهذا ما جعله يتعاطف مع حفيدة الرجل العجوز، ويتكفل بها، بعد اختفاء الجد، الذي أبلغه أنه سيتغيب ليومين، لأمر طارئ، فذهب ولم ويعد. الغريب أن البساطي يهدي الرواية إلى حفيدته فريدة الحقيقية، وتظهر شخصية فريدة مع جدها الذي يعزف على العود، فيهديها عباس الدمية التي خبأها لابنته. يحكي الجد قصة فريدة: "أبوها مات من زمن. بلهارسيا وكبد. القصد. أمها صغيرة. اتجوزت. ماشي، جوزها معاه ابن في سن فريدة من زوجة ماتت. وفريدة موش ساهلة. الولد يضربها تضربه، يشتمها تشتمه. شهر والثاني وقال موش عايز فريدة في البيت. يقول ما أصرفش على واحدة موش بنتي. آه. فيه ناس كده. وبنتي تمانع، نكدّ عليها عيشتها. ويضرب البنت. آه. على الفاضي والمليان. ضرب ضرب، عينها تورم. مناخيرها تنزل دم. أنا شوفت كده أخذت البنت عندي"

الحياة البسيطة..الكتابة الصعبة

الكتابة عن البشر المهمشين، بالرغم من بساطة حياتهم، وتفاصيلهم اليومية إلا أنها كتابة صعبة، وقد تقع في فخ أن تصبح بوقا للدفاع عنهم، إلا أن البساطي يكتبها كما هي، دون أن يسعى لأن يحرض القراء على التعاطف، بينما يأتي التعاطف من العمق الداخلي للعمل، وليس من الأحداث الخارجية.

الشخصيات تعيش لأجل المتعة الحسية. شخصيات لا تحمل أي مستوى من الوعي. لا تذم للحكومة، ولا تلعن حظها العاثر، لا تقدم أي إشارات إلى الوعي الديني بالرغم من أن فاطمة كانت مصرة أن تقيم علاقتها مع الفوّال بالحلال، وبالرغم من أن عباس أراد أن يكتب مقالا عن الكروش الكبيرة، عن الأقدام التي تعبر في الشارع، أو تلك التي يشاهدها أثناء الصلاة. الشخصيات بالرغم من بؤسها لا تخفي جانبا من المرح فيها، ويتضح ذلك أكثر في الحوارات القائمة على اللهجة المصرية.

العمل ينتهي بالكثير من الأسئلة من دون إجابات محددة، غادر الجد وترك الحفيدة فريدة عند عباس، ولم يعد، كما لم يعد زوج هانم، وكما لم نعرف ماذا حدث بين فاطمة والفوّال، وبين عطيات والفرّان. النهاية مفتوحة كما هي الحياة التي تمنحنا الأسئلة أكثر من الإجابات، النهاية مفتوحة كما هي الغرف في انتظار مستأجر جديد.

لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.