23 سبتمبر 2010

قراءاتكم: "صائد الفراشات الحزين" لبشرى خلفان (قراءة: أزهار أحمد)



(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 19 سبتمبر 2010)

من هو صائد الفراشات الحزين ؟
قراءة في مجموعة "صائد الفراشات الحزين" للكاتبة بشرى خلفان
أزهار أحمد

تحمل القصة القصيرة بشكل عام تحدياً كبيراً للكاتب والقارئ معاً، فمن جهة هي حكايات قصيرة تُرهق الكاتب في اختزالها وضبطها وتشكيلها وتنويعها في إطار البنية والجاذبية والجودة. ومن جهة أخرى يعتبر قارئ القصص القصيرة، أنها ذات إيقاع قصير عند القراءة، لا يشبه وقع الرواية أو الكتب الفكرية والفلسفية والأدبية الأخرى، أي إما أن تأخذه مرة واحدة أو أنه سيبتعد.

ربما انطلاقاً من هذه الفكرة يمكننا القول أن القاصة بشرى خلفان نجحت في تحقيق هذا التحدي عبر مجموعتها القصصية " صائد الفراشات الحزين"، إذ تمكنت من كتابة مجموعة من القصص تُربك القارئ ببساطة وسلاسة أسلوبية، تفرد أسئلتها أمامه وتتركه حائراً. فيظل ممسكاً بها غارقاً في عوالمها التي تأخذه من لندن، إلى مسقط، ومن حكاية " هايدي والملائكة " إلى البحث عن سر اختفاء صائد الفراشات الحزين.

يبدو عنوان "صائد الفراشات الحزين" مغرياً لقراءة أي نص يحمله، ولكن، حين يكون عنوان مجموعة قصصية كاملة، ثمة فضول أكبر للإكتشاف. لذا عند قراءة المجموعة، كان في البدء شغف البحث عن هذه القصة التي حملت عنوان المجموعة، لكن لم يظهر صائد الفراشات ضمن فهرس القصص! حينها ظل الاحتمال الأكبر أن يكون العنوان مأخوذاً من أحد النصوص، أو عبارة ترد على لسان أحد الأبطال. لكن بعد قراءة المجموعة القصصية كلها، اكتشفت أنه لا يوجد أي صياد، ولا أي أثر في قصة أو حوار، أو عبارة تدل عليه. كان بي توق بالفعل لمعرفة حكايته. ولكن بغض النظر عن عدم العثور على صائد الفراشات الغائب، إلا أن هذه القصص شيقة لأبعد حد.

موسيقى جاز عند النافذة
تتميز هذه المجموعة بقلة التشخيص، والإكتفاء بالتلميح، والتركيز على الأحداث الرئيسية دون التورط بالمرور على أحداث ثانوية، بحيث تجعل القارئ يستمتع بقراءتها والوصول إلى معناها بسهولة بدل أن تضيع القصص في لجة تراكمات الأحداث المربكة. ظهرت الشخوص في هذه المجموعة بمسمياتها ووظائفها الحياتية وهيئتها الواقعية أو تمت الدلالة إليها بإشارات وجودها الحقيقية كما في قصة jazz" " و "نوم" و"أمور صغيرة عابرة".

تشتغل بشرى خلفان في هذه المجموعة على الصورة البصرية بشكل مكثف، فتبدو معظم القصص وكأنها فيلم سينمائي قصير تم إخراجه بعناية، وهذا يتضح كثيراً في القصة الأولى "إطار" التي لا يمكن أن تُقرأ إلا بصورة ذهنية واضحة لها في الرأس، فهي كلها عبارة عن صورة داخل صورة، ولا مجال من الخروج عن الصورة. وأيضاً في قصة "هايدي والملائكة" التي كتبت وكأنها معدة لسيناريو فيلم ، فمن بداية القصة تظهر الحركة الدقيقة للشخصيات كافتتاح المشهد الأول بالفيلم " اختارت المقعد الأخير جنب النافذة لتجلس عليه في الحافلة الحمراء ذات الطابقين. كانت الحافلة العالقة في الزحام الصباحي للمدينة المستيقظة من ليل الصيف القصير تقف عند الإشارات الضوئية المحاذية لمحال Jab على يمين الحافلة، ومحال Natural Beauty ".

أما في قصة "تكسر" يظهر التكثيف البصري واللغوي أقصاه، ففي كل جملة صورة، وفي كل صورة معنى، لا يستطيع القارئ إلا متابعتها وكأن الكاتبة في هذه القصة تحرٍّ يبحث، أو يلاحق متهماً خبيثاً، فالقصة تحكي حركة شخصتين في زمن واحد ومكانين مختلفين وأمر واحد عالق برأسيهما وتأتي النهاية كما البداية صورة وحركة.

موسيقى الكلمات لم تكن بعيدة عن نصوص الكاتبة بشرى خلفان في قصص هذه المجموعة، إذ أن اللغة البسيطة السلسة جعلت روحاً لكل كلمة، لأنها مقتضبة ومكثفة وسريعة، توحي بالمعنى مباشرة، هي لغة تليق بالحكاية الحقيقية التي تتسلل إلى عقل القارئ فتمتعه وتجعله يعيش الجو الكامل للقصة، هذه اللغة التي لا تراوغ ولا تتحجر بين القلب واللسان، من نوع الكلمات التي تنزلق بعذوبة، تاركة كل سطر أشهى من السطر الذي قبله، ليست شعراً في قلب حكاية منمقة وإنما لغة تخدم الحكاية، ولعل هذا من أكثر مزايا المجموعة حضوراً، فقد وظفت الكاتبة العبارات بصورة موجزة ،حكائية وشعرية في آن واحد. لكنها تبتعد عن الإسهاب والمبالغة، وازدحام التراكيب التي تبعد القارئ عن إعمال مخيلته. فالموسيقى تظهر في الجمل القصيرة المنتهية بنقطة حقيقية بانتهاء المعنى وبإيقاع ثابت دون استخدام الفواصل الكثيرة في الجملة الواحدة التي تبعثر المعنى قبل الكلمات.

تتحدث بشرى خلفان في قصصها عن أشياء بسيطة وجميلة ومحزنة، نمر بها كل يوم وفي كل زمان، أشياء يعيشها أي انسان، فتجعل القارئ يمرر تلك الأشياء إلى ذاكرته ليقول حدث هذا لي أو لفلان أو لفلانة. هذا الإقتراب من الواقع هو النجاح الحقيقي لأي كاتب لأنه بهذه النتيجة يكون قد خرج من ذاته إلى العالم الذي يراه بعينه وينقله بلغته. في قصة "أمور صغيرة عابرة" وقصة "يحدث أيضاً" و"ما الذي أخفيته في الصندوق يا ليلى"، تبدو الأشياء كما لو أنها تقول هذا ما سترونه وهذا ما سنكونه وهؤلاء نحن.

يعمل كتّاب الرواية والقصة على الانتقال للواقع لأنه الثيمة الأصلية لأي حكاية قصيرة أو طويلة، لكن الإشكالية تتعلق بكيفية ونوعية تقديم هذا الواقع واختيار الصورة المناسبة له بشكل كمي لا يضير بالفكرة المستعرضة، بل يكون ومضات خفيفة تليق بالقارئ الذي أصبح منفتحاً على عوالم لا حدود لها، تتطلب من الكاتب أن يكون أكثر ذكاء في الإمساك بالمتلقي الذي يبحث عن نصوص تحمل ثيمات ثقافية وواقعية ليتفاعل معها.

وما بين المحلية والعالمية جاء اشتغال آخر من اشتغالات بشرى خلفان انطلاقاً على أن دمج العالمية والمحلية لا يسبب زعزعة للمجموعة وخروجاً عن المألوف، فالكتابة الحقيقية كالطائرة تحلق براكبها من مطار لمطار دون أن تتوقف وقفة نهائية وهذا واضح في قصتي "Jazz" و"هايدي والملائكة"، فهناك أمور كثيرة يمكن الحديث عنها خارج البيت والوطن. كما تبدو الكاتبة في هذه المجموعة واعية لطبيعة القارئ في هذا الوقت، القارئ الذي يبحث عن الأمل والخصوصية والمتعة والحقيقة. القارئ المتشكك الذي يترقب زلة واحدة كي يقلب الصفحة ويبحث عما يأخذه أبعد من مكانه.

هناك نصوص أيضاً لم تخرج من المحلية والتراث الإجتماعي للمجتمع، سواء من حيث الفكرة أو الشخصيات، أوالزمان والمكان. قصة "إفك" تحمل خصوصية تاريخية للفكرة التي تتمحور حول صعوبة الحياة الإجتماعية والتأويلات الغيبية المستندة على السحر والجن وسيطرة أصحاب النفوذ في القرى الصغيرة، على حياة البسطاء دون أن تكون هناك كلمة للقانون أو الدين، فالمهم هو الشخص الكبير الذي يغذي أهل المكان بماله وأفكاره وسيطرته لتكون ملكه وحده بمكانها وناسها. هذه هي القصة الأخيرة في المجموعة والتي جاءت لتعيد ترتيب الحياة في كل مجتمع، حيث الخروج عنه، من همهمات المجتمعات التقليدية وسيكون صعباً وربما يأخذ منحى مختلفاً من الصعوبة تحقيقه. لكن مهما اختلفت الأزمان يبقى التاريخ حاضراً حتى لو أضفناه في نهاية مجموعة قصصية التي قد تبدأ بقصص من أوروبا وأمريكا وأفريقيا، وتنتهي في الوطن، إذ أن هناك ما لا يمكن أن ننساه أو نتجاهله، ولا بد من العودة له ولو بومضة سريعة.
بعد كل هذا، من هو صائد الفراشات الحزين؟

لا بد وأنه رمز خفي للإنسان الذي يبحث عن الإجابة، عن المعنى، عن الأمل!
إنه أنا التي تلهفت للقراءة، وللبحث عن صائد الفراشات، وهو القارئ الذي يبحث عن سر مفقود أو رد لم يأت، وهو الكاتبة التي تغنيها لحظة حزن بزخم كامل لنص، كلنا صائدون والحياة فراشات ملونة، على الرغم من أنها _أيضاً_حزن لا ينتهي.
---------
الكتاب : صائد الفراشات الحزين- قصص
الكاتبة: بشرى خلفان
الناشر: دار الانتشار العربي
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.