28 أبريل 2010

قراءات: مسرحية "أهلا يا بكوات" لـ(لينين الرملي)


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 21 أبريل 2010)

نعيبُ زماننا..والعيبُ فينا
عرض لمسرحية "أهلا يا بكوات"

أحمد حسن المعيني

أعتقد أن الكثير منا-إن لم يكن جميعنا- يتمنى لو كان بالإمكان الضغط على زر "التراجع undo" في حياتنا للتراجع عن عملٍ قمنا به، رغبةً في تعديله أو الإتيان بأفضل منه، ولو سنحت لنا الفرصة وعُدنا للماضي لتخلينا عن كثيرٍ مما فعلنا، ولقدّمنا كثيرًا مما لم نقم به. نتناول اليوم مسرحيةً طرحت هذه الفكرة بأسلوبٍ كوميدي ممتع يجعلك تتفكر كثيرًا فيما كنت ستفعله لو عاد بك الزمن إلى الماضي، وهي مسرحية "أهلا يا بكوات" للكاتب المصري (لينين الرملي). كنتُ عندما أشاهد مسرحية لهذا الكاتب أتساءل متى يمكننا قراءتها، وتحققتْ أمنيتي أخيرًا عندما قامت دار نهضة مصر قبل سنواتٍ قليلة بطباعة مجموعةٍ منها، وهكذا صدرت "أهلا يا بكوات" عام 2008 في 166 صفحة من القطع الصغير. وقد قُدّمت هذه المسرحية على خشبة المسرح لأول مرة عام 1989 وحقق نجاحًا كبيرًا، ثم أعيد عرضها عدة مرات كان آخرها عام 2006.

إن كنتَ من محبي المسرحيات الكوميدية ذات الإسقاطات الرمزية الجادة، فلا بدّ أنك ستهوى عددًا من مسرحيات (لينين الرملي)، هذا الكاتب الذي يجيد إيصال الفكرة بسلاسةٍ وخفة ظل، دون ابتذال أو إسفاف، فيُضحكك على ما هو حريّ أن يبكيك. قدّم عددًا من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية وحوالي 40 مسرحية. أما أشهر أعماله فتلك التي كوّن فيها ثنائيًا مميزًا مع الفنان الرائع (محمد صبحي)، وهي "انتهى الدرس يا غبي" و "تخاريف" و "أنت حر" و "وجهة نظر" و "الهمجي". وقد حصل الرملي على عدة جوائز في المسرح منها "جائزة كلاوس" عام 2005، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2006، وجائزة سعاد الصباح.

تحكي مسرحية "أهلا يا بكوات" قصة المدرّس الفقير (نادر) و صديقه العالم المثقف الثريّ (د. برهان) الذين يلتقيان بعد طول غياب، ويتناقشان حول المستقبل وما قد يحدث لمصر والإنسانية جمعاء نتيجة للتطور التقاني العجيب. وفجأة يُزَلزلُ المكانُ وينتقلان في الزمن إلى مئتي عامٍ في الماضي (إلى عصر المماليك). هناك يُضطران إلى إخفاء حقيقتهما ومحاولة التعايش مع الوضع الجديد، ثم السعي إلى تغيير التاريخ بإصلاح الأخطاء التي حدثت في الماضي، وتعجيل النهضة والتطور العلمي كي تستطيع مصر (والعرب عمومًا) اللحاق بركب الأمم الأخرى. ومع مرور الأحداث نجد الصديقين يختلفان في التعامل مع هذا الماضي اختلافًا كبيرًا فيتصادمان وتودي بهما مواقفهما إلى مواجهةٍ كبيرة.

بالنظر في لغةِ المسرحية نجدها مُناسبة جدًا لهذا العمل الذي كُتب كي يُقدّم على المسرح الشعبي لا النخبوي، فجاءت سلسة خفيفة مبتعدة عن الشاعرية أو الخطابية (إلا في مواضع تستدعي ذلك) كي تكون قريبة من المتفرجين الذين سيحضرون لمشاهدة المسرحية. وكي تكون اللغة أقرب إلى هذا الجمهور استخدم لينين الرملي اللهجة المصرية. ولأنّ هناك فرقًا زمنيًا بين شخصيتي نادر وبرهان من ناحية وشخصيات العصر المملوكي، كان على المؤلف أن يستخدم لهجةً مصرية لا تبدو معاصرة، تستخدم ألفاظًا توحي بذلك الزمن (مثل: التقيتهم، بصاصين، استخراع، استحرص منهم). ومن علامات نجاح المؤلف أيضًا أن الحوار كان مُناسبًا للشخصيات، فالخطاب الديني واضحٌ في حديث (الشيخ)، واللهجة المصرية المتأثرة بالتركية في حديث الأمير المملوكي (مراد بك)، واللهجة المصرية القريبة جدًا من المعاصرة في حديث الجارية والقهوجي، ربما للدلالة على أن أحوال العامة ما تزال كما هي!

وأما عن الشخصيات فكان رسمها مُتقنًا منطقيًا طوال المسرحية، فمثلا نتعرف على الدكتور برهان، العالِم المثقف المرفّه صاحب الشقة الفاخرة والخادمة الأجنبية، وهو ذو شخصية متعالية بعلمها ووجاهتها عن باقي الشعب، وربما يرمز إلى ذلك مسكنه في ناطحة سحابٍ على جبل المقطم. والدكتور برهان شخصٌ لا يهمه من العلم والمعرفة إلا ما يزيده راحةً ومتعة، ولا يهتم إلا بنفسه كما يقول لصديقه نادر " وهو أنا المسئول عن البشريه؟ ولا تكونش فاهم إن ما فيش دكاتره في البلد غيري..دا احنا بقينا على قفا من يشيل" (ص17). وعندما يعود الزمن إلى عصر المماليك نجد برهان يتزلف إلى المسؤولين ويناور وينافق كي ينال حظوتهم ويتنعم في ظلهم. والمثير في شخصيته أنه بعد عودته مائتي عامٍ في الماضي تحوّل من الأرستقراطية الغربية المعاصرة إلى رجل شرقي يمارس ما تمارسه الطبقة الارستقراطية آنذاك من تعدد الزوجات واتخاذ الجواري والعبيد وكبت المرأة، فبرهان يرمز إلى الطبقة الانتهازية مطاطية المبادئ التي لا تأخذ من الحضارة إلا قشورها. في الجهة الأخرى نجد صديقه نادر مهتمًا ليس بنفسه بل بالبشرية جمعاء وبأمته خصوصًا، وقد أتى يستفسر عن مصيرها لا مصيره، وعندما عاد إلى عصر المماليك آلمه ذلك فلم يستطع التكيف مع ذلك الزمن وفقدانه للحضارة والتقدم. وهكذا يحاول نادر أن يُوجد في مصر قِيَم الحريّة والعدالة والمساواة والنهضة والعلم، رافضًا الخضوع لمزاج ذلك العصر وتخلفه، إلا أنه شخصية من النوع الثوري الذي يريد التغيير الجذري السريع.

هناك ثيمتان رئيستان في هذه المسرحية يمكن تتبعهما في الحوار والشخصيات والرموز. أما الثيمة الأولى فهي الأثر الذي يحدثه الفكر الديني السلفي في الدولة، ويجب ألا ننسى أنّ هذه المسرحية كُتبت في الثمانينات مع صعود التيار السلفي في مصر. ويذكر المؤلف ذلك في مقدمته حين يقول بأن فكرة المسرحية جاءت بعد أشهرٍ من اغتيال الرئيس أنور السادات وانتشار التيار الإسلامي السلفي في مصر، رغم أنه ليس الدافع الوحيد لكتابة المسرحية. وبغضّ النظر عن كلام لينين الرملي إذا ما تأملنا في المسرحية وإسقاطاتها نجد فزعًا واضحًا من التيار السلفي. ومن أوضح المواضع في هذا الشأن ما قاله نادر متحسرًا بعد عودته إلى الماضي: "يعني خلاص..مش هيبقى راديو ولا تليفزيون ولا جرايد ولا مسارح ولا سينماهات؟ مش هتقرأ روايات ولا دواوين شعر؟ مش هنسمع مزيكا ولا أغاني؟ مش هنتفرج على تماثيل ولا معارض رسم..مش هيبقى فيه برلمان ولا نقابات ولا مدارس ولا كليات، مش هيبقى عندما متاحف ولا بلاجات ولا نوادي ولا ماتشات كورة حتى؟ مش هيبقى فيه كازينوهات على النيل ولا شبان وبنات بيتمشوا وإيديهم في إيدين بعض؟ طب والحياة يبقى طعمها إيه من غير دا كله؟" (ص46) وفي ذلك إسقاط على ما يُمكن للفكر السلفي أن يقوم به من تحريم وتجريم لأنواع الفنون والترفيه. كما نجد هذه الثيمة واضحة في شخصية (الشيخ) الذي يعارض التغيير والابتكار ويدعو إلى نبذ ذلك بدعوى البدع والضلالات. وفي نهاية المسرحية نصل إلى مرحلة أكبر من التصريح والوضوح حيث نجد صوتين يناديان في الناس أحدهما صوت نادر الذي يدعو إلى التقدم والعلم ونبذ الجهل والخرافة، والثاني صوت الشيخ الذي يدعو إلى محاربة الخلاعة والتبرج والسفور والشعر والكتابة والفن.

أما الثيمة الأخرى التي تبرزها المسرحية فهي تدهور الأمة العربية وعجزها عن مواكبة التقدم والتحضر، ويظهر القلق من ذلك في بداية المسرحية حين يقول نادر لصديقه برهان: "ولمّا العالم هيحصل فيه التقدم دا كله! بلدنا هتبقى فين منه؟ هنعمل إيه وقتها؟ هنقدر نجاري الناس دي ولا هنفضل قاعدين نتفرج عليهم؟" (ص16). ورغم عودة الزمن إلى الوراء إلا أننا لا نجد شيئًا قد تغيّر، فعقلية الشعب والقادة لا تحتوي على أية حكمةٍ أو نظرةٍ مستقبلية أو رغبةٍ في التقدم، فحين يحاول نادر وبرهان تنبيههم على ما سيحدث في العالم وتزويدهم بأدوات التقانة والعلم نجدهم لا يتقبلونها، وإن تقبلوها لا يحسنون استخدامها. وكأنّ المسرحية تقول أننا نحن العرب نعيش ليومنا فقط ولا نأخذ من الحضارة إلا مظاهرها، ولا هِمّة لدينا لنتعلم ونشترك في إنتاج العلم والمعرفة، حيث يقول الشيخ: "احنا مالنا حاجه بعلوم الدنيا إحنا اشترينا الآخره" (ص43) و "لقد خص الله الأجانب بالعلم والتقدم وسخرهم ليخترعوا ويبتكروا لخدمتنا فنتفرغ نحن لعبادته سبحانه وتعالى وندخل الجنة من أوسع أبوابها" (ص162). ولا يفوت المؤلف أن يشير إلى الفساد والرشوة ورغبة الحكام في بقاء الناس في جهل حتى يسهل حكمهم، قديمًا وحديثًا. ومن المفارقات الطريفة أنه في عام 2006 عندما اُعلن عن إعادة عرض المسرحية في مصر قال مخرجها عصام السيد إن "الظروف السياسية التي تناقشها لم تتغير وإنما تفاقمت أكثر".

ما نأخذه على هذه المسرحية هجومها الشرس على الفكر الديني السلفي دون الإتيان بشخصية تمثل التيار الديني الآخر، فالإسلام ليس كله سلفيًا، و كان جديرًا بالمؤلف الذي يتحدث عن التطور والنهضة المصرية أن يُنصف فيذكر شيئا يمثل الإسهامات العلمية والفكرية لشخصيات دينية أثرت في نهضة مصر مثل رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده. عدا ذلك فالمسرحية جميلة ممتعة لها رسالة قوية نجح المؤلف في إيصالها بسلاسة كي تبقى في الأذهان طويلا.


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

قراءاتكم: كتاب "رسائل إلى روائي شاب" (قراءة: رابع)


رسائل إلى روائي شاب

أنجز يوسا هذا الكتاب في سنة 1997 م، أي قبل أن يكتب روايتيه العظيمتين (حفلة التيس) و(الفردوس على الناصية الأخرى)، مستخدما ً نفس العنوان الذي استخدمه ريلكه في (رسائل إلى شاعر شاب)، الاختلاف كان في أن رسائل ريلكه موجهة إلى شاعر شاب حقيقي، بينما رسائل يوسا موجهة إلى كل روائي شاب، كما أن رسائل يوسا تزيد رسالتين على رسائل ريلكه العشر.

لنبدأ بالرسائل مع عرض بسيط وسريع وناقص بالتأكيد لمحتويات كل رسالة:

الرسالة الأولى: قطع مكافئ للدودة الوحيدة

في هذه الرسالة يحدد يوسا نقطة الانطلاق لأي روائي بأنها الميل إلى الأدب، حيث أن “الكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة هي أفضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له، لأن الكتابة في نظره هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها من خلال ما يكتبه”، وهذا الميل نشأ حسب يوسا من التمرد على الواقع، ورفض وانتقاد الحياة كما هي، والرغبة في استبدالها بتلك الحياة التي يصطنعها الروائي بمخيلته، وهذا الميل إلى الأدب يجب أن يتحول إلى عبودية تشبه ما كانت تفعله السيدات البدينات في القرن التاسع عشر من ابتلاع دودة، تتغذى على أجسادهن، فالأدب يتغذى على حياة الكاتب، ويشغله لساعات متطاولة من الكتابة، ويضرب مثلا ً على ذلك فلوبير، وينصح بقراءة مراسلاته لعشيقته لويز كولي والتي تظهر مثابرته، ومتطلباته في فنه التي لم يتنازل عنها، وأنتجت (مدام بوفاري).

الرسالة الثانية: الكاتوبليباس

يفتتح يوسا هذه الرسالة بعبارة جميلة “الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة”، ومن ثم يحدد هدف الرسالة بأنها للإجابة على سؤال: كيف تخطر الموضوعات للروائيين؟

يجيب يوسا بأن “أصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها، والحياة المعيشة هي الينبوع الذي يسقي القصص المتخيلة، وهذا لا يعني بكل تأكيد أن تكون الرواية على الدوام، سيرة حياتية مستترة لمؤلفها، بل يعني بصورة أدق أنه يمكن العثور في كل قصة حتى في أكثر قصص التخيل تحررا ً وانطلاقا ً، على نقطة انطلاق، على بذرة حميمة، مرتبطة أحشائيا ً بجملة من التجارب الحياتية لمن صاغها”، هذا الأصل أو هذه البذرة تمر بعملية ستريبتيز – تعري – معكوسة، فالروائي يقوم بستر وإسدال ملابس كثيفة على تلك الفكرة الأصلية، كما يشبه يوسا الروائيين بالكاتوبليباس الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير (إغواء القديس إنطوان)، وأعاد إبداعه بورخيس في (المرجع في مملكة الحيوان المتخيلة)، حيث يلتهم هذا الحيوان نفسه، بادئا ً بقدميه، والروائي يفعل ما يشبه ذلك في بحثه عن مرتكزات لروايته، ويرى يوسا أن أشهر من قام بذلك بروست في روايته (البحث عن الزمن الضائع).

ومع كل هذا، يرى يوسا أنه مع أن الحياة المعاشة هي نقطة الانطلاق في الابتكار الروائي، ولكنها ليست نقطة الوصول، وأن الرواية تحتاج إلى أن تبلغ استقلالها الذاتي والكامل عن مؤلفها، بحيث لا تظل مرتبطة به وبسيرته وإلا كانت رواية خائبة، ويصل أخيرا ً إلى مفهوم الكاتب الحقيقي أو الأصيل، أي الكاتب الذي يكتب عن المواضيع التي تفرض نفسها عليه وتهمه، لا من يكتب وعينه على رغبات الناس، وما يمكن أن يبيع أكثر.

الرسالة الثالثة: القدرة على الإقناع

وتتناول موضوع شكل الرواية، ويؤكد يوسا قبل أن يسترسل على أن الفصل ما بين محتوى الرواية وشكلها هو أمر مصطنع ولا يقبل به إلا لأسباب توضيحية وتحليلية، وأن ما ترويه الرواية لا يمكن فصله عن الطريقة التي روي بها، وأن هذه الطريقة هي ما يحدد كون الرواية قابلة للتصديق أم لا. حيث ترتكز قوة الإقناع فيها على أساس تضييق المسافة ما بين الوهم والواقع، وجعل القارئ يعيش الكذبة كما لو أنها حقيقة واقعة.

الرسالة الرابعة: الأسلوب.

تتناول كما هو واضح الأسلوب، وهو طريقة الروائي في اختيار مفردات اللغة وصياغتها وترتيبها، بحيث يكون الأسلوب فعال أو غير فعال، أي تصبح الرواية قادرة على الإقناع أو غير قادرة على ذلك؟ ويوسا يستبعد فكرة السلامة اللغوية، أي سلامة الرواية نحويا ً ولغويا ً – وأنا أخالفه في هذا وأعتبره مدمرا ً للقدرة على الإقناع، بالنسبة لي على الأقل -، ويؤكد كلامه بذكر كبار الروائيين الذين لا يمكن اتهام رواياتهم بسلامتها اللغوية مثل بلزاك وجويس وسيلين وكورتاثار.

ويعتبر يوسا الكتابة الروائية فعالة إذا كانت متماسكة داخليا ً – أي لها منطق معين تسير عليه، حتى ولو كانت تعبر عن قصة مشتتة ظاهريا ً، بحيث يشعر القارئ بأن هذه القصة لا يمكن أن تروى إلا بهذا الأسلوب، ويضرب مثالا ً رواية جويس (عوليس)، فهي تبدو كفيض مضطرب من الانفعالات والذكريات، ولكنها في الحقيقة أسلوب أدبي مبني بهذا الشكل ليبدو كوعي بلوم في حالة شرود -، وتكون فعالة أيضا ً إذا كانت تتصف بطابع الضرورة اللازمة ويعني أن لا يشعر القارئ بوجود فجوة بين ما يروى والكلمات التي يروى بها، بحيث لا يصدق القارئ أو لا يتفاعل مع ما يروى بسبب خراقة الأسلوب، ويبين فكرته باستدعاء أسلوب الكاتبين الكبيرين بورخيس وماركيز، وينبه إلى تقليد عدد كبير من الكتاب لهما في أسلوبهما، ولكن الكثير من هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصل إليه الاثنان من طبع أسلوبهما بطابع الضرورة.

من ثم ينصح يوسا الروائي الشاب بأن يكثر من القراءة للأدباء الجيدين، في طريقه للبحث عن أسلوبه الذي يخصه، والذي يجب أن يكون متماسكا ً وضروريا ً، وينبهه إلى أن هذا يتم بشكل متدرج، وأن فوكنر ذاته، كانت رواياته الأولى بحثا ً عن أسلوب خاص، وفلوبير أيضا ً بحث عن أسلوبه، واحتاج لخمس سنوات من العمل الجبار على روايته الأولى ليصل إليه، ولفلوبير نظرية حول الأسلوب هي نظرية (الكلمة الدقيقة) – اكتشفت أنها متكونة لدي، وأني أؤمن بها قبل أن اقرأ أصلها الفلوبيري هنا -، أي أن هناك كلمة وحيدة تعبر عن الفكرة بالضبط، كيف يعرف الروائي أنه وصل إليها؟ بالسماع، أي عندما يكون وقعها جيدا ً، فلذا كان فلوبير يختبر كل جملة بطريقة الصراخ أو الصوت العالي، فكان يخرج إلى درب محفوف بالزيزفون ليقرأ بصوت عال ٍ ما كتبه، وهو درب صار يعرف فيما بعد بدرب الصراخ – اكتشفت أنني مارست هذه الطريقة، حيث كنت أعيد بصوت عال ٍ ما كتبته، لا لم يكن لدي يا حسرتي دربا ً للصراخ، كنت أصرخ في غرفتي، وبلا زيزفون -.

الرسالة الخامسة: الراوي – المكان

يحدد يوسا التحديات التي يواجهها أي روائي في أربع مجموعات كبيرة: الراوي، المكان، الزمن، مستوى الواقع.

يبدأ يوسا بتصحيح خطأ شائع، وهو تطابق الراوي مع المؤلف، وهو خطأ لا يقع فيه القارئ فقط، وإنما بعض الروائيين وخاصة عندما يكتبون باستخدام ضمير المتكلم ويعتمدون على شيء من سيرتهم الذاتية، الراوي حسب يوسا كائن مصنوع من الكلمات، كائن مختلق على الدوام، يعيش في الرواية التي يرويها، وطالما هو يرويها، وهو مثله مثل بقية شخوص الرواية، إلا أنه أكثر أهمية، لأن الرواية تروى من زاويته هو، بعد هذا علينا أن نعرف أن هناك ثلاثة خيارات فيما يتعلق بسؤال “من الذي سيروي القصة؟”، الخيار الأول: راو ٍ – شخصية في القصة، الثاني: راو ٍ – عليم، خارجي غير منتم للقصة التي يرويها – ولكن لا ننسى أنه كائن مصنوع هو بدوره -، الخيار الأخير: راو ٍ – ملتبس لا يعرف هل هو يروي من داخل العالم المروي أم من خارجه، وهو أحدثها ونتاج للرواية الحديثة.

كيف نعرف أي من هذه الخيارات اختار المؤلف؟ يكفي أن نعرف أي ضمير نحوي استخدم، فالضمير يطلعنا على الموقع الذي يشغله الراوي، فضمير المتكلم (أنا) أو (نحن) يعني أن الراوي راو ٍ – شخصية، وضمير الغائب (هو) يفيد أن الراوي راو ٍ – عليم، أما ضمير المخاطب (أنت) فيمكن أن يكون ملتبسا ً، إما راو ٍ – عليم أو راو ٍ – شخصية يستخدم هذا الضمير ليتحدث إلى نفسه، ويتوجه إلى القارئ في نفس الوقت.

بالطبع يمكن للمؤلف التنقل بين هذه الرؤى المكانية محدثا ً تبدلا ً في المنظور، ولكن على هذه التنقلات أن تكون مبررة ومفيدة وإلا أدت إلى إضعاف الرواية وقدرتها على الإقناع.

ويضرب يوسا أمثلة على هذه النقلات، رواية (موبي ديك) لهرمان ميلفل، و(بينما أرقد محتضرة) لفوكنر، و(مدام بوفاري) لفلوبير الذي كان يؤيد بقاء الراوي غير مرئي، بحيث لا يشعر القارئ بوجود من يروى له، ويتكون لديه شعور بأن النص يتولد من تلقاء نفسه، وحتى يفعل هذا، أبدع فلوبير بعض التقنيات، أبرزها حيادية الراوي وعدم تأثره بما يرويه – كونديرا كمثال بعيد تماما ً عن هذا -.

الرسالة السادسة: الزمن

يقسم يوسا الزمن إلى زمنين: زمن تسلسلي (كرونولوجي) – وهو الزمن الذي نعيش فيه نحن البشر الحقيقيين -، وزمن نفسي (سيكولوجي) – وهو مدى وعينا بالزمن ومروره -، وزمن الرواية هو زمن مشيد انطلاقا ً من الزمن النفسي، ويضرب مثالا ً على ذلك رواية (حادث على جسر نهر البومة)، وقصة بورخيس (المعجزة السرية).

يعرف يوسا بعد هذا الرؤية الزمنية في الرواية على أنها العلاقة القائمة بين زمن الراوي وزمن ما يروى، ولها ثلاثة احتمالات: الأول، تطابق زمن الراوي وزمن ما يروى، بحيث تروى الأحداث بصيغة المضارع، الاحتمال الثاني، الراوي يروي انطلاقا ً من الماضي أحداثا ً تجري في الحاضر أو المستقبل، الثالث، الراوي يتموضع في الحاضر أو المستقبل ويروي أحداثا ً وقعت في الماضي البعيد أو القريب، للتمييز بين هذه الرؤى يتناول يوسا قصة أغوستو مونتيروسو (الديناصور)، وهي قصة قصيرة جدا ً، نصها:

“عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك”.

ما هي الرؤية الزمنية لهذه القصة؟ هي من النوع الثالث، حيث نلاحظ أن الفعل استيقظ يدل على الماضي المطلق، بينما الراوي يروى لنا وهو متموضع في المستقبل، ولو أردنا تغيير الرؤية الزمنية لقصة الديناصور لتصير من النوع الأول لكان النص بهذا الشكل:

“يستيقظ و لايزال الديناصور هناك”، حيث الراوي والمروي في نفس الزمن.
ولتكون من النوع الثاني، أي الراوي يستقر في الماضي ويروي أحداثا ً لم تحدث بعد، أي مكانها المستقبل:

“عندما ستستيقظ، سيكون الديناصور لايزال هناك”.

الرسالة السابعة: مستوى الواقع

ويعرفه على أنه العلاقة القائمة بين طبقة الواقع التي يقف فيها الراوي لكي يروي الرواية، وطبقة الواقع التي تدور فيها أحداث ما يروى، ويقسمها مع الكثير من التحفظ إلى: مستوى عالم واقعي ومستوى عالم خيالي (فانتازي)، ويستخدم قصة الديناصور مرة أخرى، حيث يبين أن مستوى الواقع في هذه القصة هو مستوى خيالي، لوجود الديناصور فيها، بينما الراوي يقف في المستوى الواقعي، لم َ؟ لأنه لو دققنا في القصة لانتبهنا إلى الدهشة التي تعبر عنها كلمة لايزال “عندما استيقظ، كان الديناصور لايزال هناك” – لنتخيل أن البطل فقد وعيه عندما رأى الديناصور أمامه، فالراوي العليم يخبرنا أنه عندما استيقظ كان الديناصور لا يزال هناك متحديا ً المنطق والواقع -.

الرسالة الثامنة: النقلات والقفزات النوعية

يعرف يوسا النقلة على أنها أي تبدل يطرأ على وجهات النظر أو الرؤى المكانية أو الزمانية أو مستوى الواقع، وتكون هذه النقلة نوعية عندما تحول مستوى الواقع في في القصة من عالم واقعي إلى عالم خيالي.

الرسالة التاسعة: العلبة الصينية

وهي التي تتكون من علبة بداخلها علبة أصغر بداخلها علب أصغر وهكذا، ولكنها في الفن الروائي عبارة عن تولد قصص فرعية عن القصة الرئيسية ، وأبرز الأمثلة عليها (ألف ليلة وليلة) ورواية (الحياة القصيرة) لخوان كارلوس أونيتي.

الرسالة العاشرة: المعلومة المخبأة

ويقصد بها عدم كشف معلومة معينة في الرواية وتركها لخيالات القارئ وافتراضاته، ومثالها قصة همينغواي (القتلة) حيث لا نعرف سبب بحث القتلة عن السويدي أول أندرسن، وهناك أيضا ً رواية هيمنغواي (وما تزال الشمس تشرق) – وأعترف أني عندما قرأتها افترضت فعلا ً المعلومة المخبئة التي أشار إليها يوسا، ولكن لأني لم أكن أعرف هذا المفهوم، شعرت بحيرة كبيرة، لمَ يشر إليها هيمنغواي !!! -

الرسالة الحادية عشرة: الأواني المستطرقة

ويعني بها وجود واقعتان أو أكثر تجريان في أزمنة أو أمكنة أو مستويات واقع مختلفة ويجمع بينها كلية سردية واحدة، بهدف أن يحدث هذا المزج تعديل متبادل أو دلالات مختلفة، ويضرب مثالا ً على ذلك مشهد المعرض الزراعي من رواية (مدام بوفاري)، حيث تجري أحداث المعرض الزراعي، وفي ذات الوقت تلتقي إيما بوفاري برودولف، وحيث يهدف المزج بين الحدثين إلى تخفيف حدة خطابيهما، خطاب المستشار لييفان بكل ما فيه من نفاق، وخطاب رودولف العاشق بكل ما فيه من كلمات حب وهيام.

الرسالة الثانية عشرة: على سبيل الوداع

يؤكد في هذه الرسالة الأخيرة على قيمة النقد، وإمكانية الاستفادة منه مع ذكر بعض الكتب النقدية المهمة، ولكنه مع هذا يشير إلى أن النقد لا يمكنه مهما كان دقيقا ً وقويا ً أن يلم بكامل العملية الإبداعية، فلذا تكون نصيحته الأخيرة “صديقي العزيز: إنني أحاول أن أقول لك أن تنسى كل ما قرأته في رسائلي حول الشكل الروائي، وأن تبدأ دفعة واحدة بكتابة الروايات”.

رسائل إلى روائي شاب
ماريو بارغاس يوسا
ترجمة: صالح علماني
من إصدارات دارى المدى
الطبعة الأولى 2005 م
130 صفحة


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

26 أبريل 2010

حملات: انطلاق حملة "الكتاب السندباد"


يسرّ مدوّنة "أكثر من حياة" أن تُعلن عن إطلاق حملتها الأولى بعنوان "الكتاب السندباد"، بدءًا من اليوم الاثنين 26 أبريل 2010، تزامنًا مع الاحتفال باليوم العالمي للكتاب وحقوق التأليف والنشر.

الفكرة كما تُنفذ في الأصل هي أن تقرأ كتابًا ثم تضعه في مقهى أو مكان عام حتى يأخذه غيرك ويقرأه، ثم يتركه هو الآخر في مكان عام، وهكذا حتى ينتقل الكتاب بين قراء كثيرين. ولكن حملة "الكتاب السندباد" تختلف قليلا، حيث المطلوب ممن يحصل على الكتاب أن يسلمه إلى قارئ آخر، ولا يضعه في مكان عام، وذلك غرسًا لعادة التشجيع على القراءة وإهداء الكتب.


ستبدأ الحملة من اليوم حيث سأبدأ في قراءة كتاب، ثم أمرره إلى قارئ آخر، وسأخصص ركنًا في المدوّنة لتتبع مكان الكتاب. ولقد اخترت أن يكون الكتاب هو "النبي" لـ(جبران خليل جبران) بترجمة (ميخائيل نعيمة)، وهو كتاب من أروع الكتب، ويُعد من أكثر الكتب مقروئية على الإطلاق.


أما الطريقة والشروط فهي كالتالي، كما هي مكتوبة داخل الكتاب:
1- بمجرد أن يصلك الكتاب أرسل اسمك واسم مدينتك إلى amueini@gmail.com، حتى نتمكن من تتبع رحلة الكتاب. وفي حال تعذر اتصالك بالإنترنت الرجاء إرسال رسالة نصية على الرقم التالي.....
2- رجاءً لا تُبقِ الكتاب لديك أكثر من عشرة أيام، سواء انتهيت منه أم لا.
3- لا تنسَ أن توقّع باسمك وتاريخ إنهائك الكتاب على الصفحة التي تلي تلك التي وقّع عليها القارئ السابق الذي أعطاك الكتاب.
4- مرّر الكتاب إلى قارئ آخر، سواء أكان زوجك أم أخاك أم صديقك أم زميلك أم أي شخص آخر تتوسم فيه حبّ الكتاب.
5- لا تتردد في نقل الكتاب إلى مدنٍ ودول أخرى مع التأكيد على الالتزام بشروط الحملة.
6- إن شئت يمكنك كتابة انطباعك عن الحملة و/أو الكتاب في الركن المخصص لذلك في مدوّنة "أكثر من حياة": http://morethan1life.blogspot.com (سيسرنا أن نراك في ركن الكتاب السندباد)
7- في نهاية هذا العام 2010، نرجو من الشخص الذي لديه الكتاب التواصل معنا لاستلام الكتاب وتقييم التجربة.


أعزائي القراء..هذه مجرد بداية وتجربة نأمل أن نكررها كثيرًا، على أن نخصص موقعًا إلكترونيًا لهذا الغرض يمكنكم من خلاله إطلاق سراح كتبكم ومتابعة رحلاتها. دعواتكم للكتاب بحيوات عديدة وأصدقاء كثر.


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

24 أبريل 2010

إهداءات: هدايا بمناسبة اليوم العالمي للكتاب


احتفل العالم يوم أمس 23 أبريل باليوم العالمي للكتاب وحقوق التأليف والنشر، وبهذه المناسبة تقدّم لكم مدونة "أكثر من حياة" بعض الإهداءات من مكتبتي الشخصية، منها روايات كانت على قائمة البوكر العربية الأخيرة.

ومع أننا نحتفل بالكتاب عالميًا، إلا أننا لا يجب أن نغفل الكتاب المحلي، لذا فإنني أطبق اليوم فكرة جديدة في الإهداءات لا أعتبرها إلا خطوة بسيطة لتسليط الضوء على الكتاب العماني. وهكذا أقدّم لكم اليوم 9 روايات عربية وعالمية، و 9 كتب عمانية.

طريقة الحصول على الإهداء:
* الإهداء عبارة عن كتابين تختارهما معًا، أحدهما رواية عربية/عالمية والآخر كتاب عماني
* في مقابل هذا الإهداء نريد منك أن تكتب عرضًا للكتاب العماني وترسله إلى amueini@gmail.com
1- ضع تعليقًا فيه اختيارك للرواية والكتاب العماني
2- أرسل رسالة إلكترونية فيها اسمك وعنوانك البريدي الكامل إلى amueini@gmail.com

من يحضر أولا يختار كتابين اثنين كما يشاء، ومن يأتي بعده عليه التأكد من الكتب المتبقية.


قائمة الروايات:

1- الكتاب الأسود، لأورهان باموق
2- إسمي أحمر، لأورهان باموق
3- مئة وثمانون غروبًا، لحسن داود

4- السيدة من تل أبيب، لربعي المدهون

5- أميركا، لربيع جابر

6- نباح، لعبده خال


7- يوم غائم في البر الغربي، لمحمد المنسي قنديل

8- الأم، لمكسيم جوركي

9- رادوبيس، لنجيب محفوظ


قائمة الكتب العمانية:


1- رفرفة، لبشرى خلفان (قصص)


2- الوخز، لحسين العبري (رواية)

3- عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل، لسليمان المعمري (قصص)
4- الذاكرة ممتلئة تقريبا، لمازن حبيب (قصص)
5- الساذجة: قصص من الأدب العالمي، لمجموعة الترجمة العمانية (قصص)

6- لعبة اليانصيب: قصص من الأدب الأميركي، لمجموعة الترجمة العمانية (قصص)

7- وأخيرًا استيقظ الدب، لعبدالعزيز الفارسي (قصص)

8- حفلة الموت، لفاطمة الشيدي (رواية)


9- مجرد خيال عابر، لهلال البادي (قصص)



لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

18 أبريل 2010

قراءات: كتاب "جغرافية الفكر"


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 14 أبريل 2010)

عادات التفكير..بين الشرق والغرب
عرضٌ لكتاب "جغرافية الفكر"


أحمد حسن المعيني


هناك نكتة تقول بأن الأمم المتحدة وزّعت استبانة حول العالم تسأل فيها السؤال التالي: "من فضلك هلاّ قدّمت لنا رأيك الشخصي الصادق حول الحلول لمشكلة نقص الغذاء في بقية أنحاء العالم؟"، وتبيّن من النتائج أنه في أفريقيا لم يفهموا كلمة "غذاء"، وفي الشرق الأوسط لم يفهموا كلمة "حلول" وفي الصين لم يفهموا معنى "الرأي الشخصي" وفي أميركا لم يفهموا معنى "بقية أنحاء العالم"! هي مجرد طرفة لا تعميمات تُرجى منها، ولكنها قد تشير إلى فروقٍ كبيرة بين شعوب العالم على مستوى التفكير. هذا ما يُحاول أن يقوله كتاب "جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولماذا؟" الذي صدر عام 2003 ونُشرت نسخته العربية عام 2005 في سلسلة عالم المعرفة بترجمة (شوقي جلال).

الكتاب من تأليف (ريتشارد إي نيسبت) البروفيسور في علم النفس الاجتماعي، ومدير مشارك في برنامج الثقافة والإدراك في جامعة ميتشيجان بالولايات المتحدة. صدرت له ثلاثة كتب كان آخرها "الذكاء وكيفية الحصول عليه: أهمية المدارس والثقافات" (2009) والعديد من الدراسات. ولقد حصل (نيسبت) على العديد من الجوائز العلمية والبحثية كان آخرها عام 2007 من جامعة فورزبرغ الألمانية. وفي الكتاب الذي نحن بصدده يحاول (نيسبت) إثبات أنّ التفكير ليس غريزة أو عادة ثابتة يشترك فيها جميع البشر في كل مكان، وإنما هناك عوامل ثقافية واجتماعية تؤثر فيه تأثيرًا كبيرًا وتشكّل طريقة عمله. وهكذا يقوم المؤلف بالمقارنة بين أساليب التفكير لدى الغربيين (وبخاصة سكّان أميركا وكندا) وتلك لدى الشرق-آسيويين، متتبعًا الجذور التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي أنتجت هذين النمطين المتمايزين من التفكير.

يقارن الفصل الأول بين الأسس الفلسفية التي اتكأ عليها كل من المجتمع الغربي والمجتمع الشرق-آسيوي، فالمجتمع الغربي وريث الفلسفة الإغريقية التي اتسمت بتمجيد الحرية الشخصية والمسؤولية الذاتية عن الاختيار واستغلال الطاقات الفردية لتحقيق الإنجازات، ولم يكن غريبًا إذن أن يؤدي ذلك إلى نزعةٍ جدالية يحاول كل فردٌ بها إثبات تفوقه على الآخر، كما كان لدى الإغريق رخاء اقتصادي نسبي ساهم في تنمية فضولهم المعرفي وولعهم بإضفاء الصفات ووضع التصنيفات والقوانين. من الناحية الأخرى ورث الشرق-آسيويون الفلسفة الصينية التي تُعلي من قيمة التناغم والانتماء إلى الجماعة والالتزامات المتبادلة والحث على الإنتاج الجماعي، ولم يكن لدى الصينيين القدماء ولعٌ بالتجريد النظري المنفصل عن القيمة العملية، حيث أنتجوا الكثير من التقانات التي لم يعرفها الإغريق، ولكنهم لم يمتلكوا فضولا معرفيًا تجريديًا كبيرًا. العالم بالنسبة للإغريق بسيط يُمكن معرفته بالتركيز على صفات المواضيع ووضع قواعد كلية لها، في حين نظر الصينيون إلى العالم على أنه معقد يتكون من جواهر عديدة متفاعلة متبادلة التأثير، ولا سبيل إلى التعامل معه إلا بروح التناغم والتكافل والنظرة إلى السياق الكامل.

ولكنّ الفلاسفة الذين وضعوا هذه الأسس هم حقيقةً نتاج مجتمعهم لا صانعيه، وهكذا يُمكن رد الفوارق الفلسفية إلى فوارق اجتماعية تعود بدورها إلى فوارق بيئية جغرافية. في بلد مثل الصين حيث السهول الخصبة والأنهار تنشط الزراعة، مما يحتّم انتشار قيم التعاون والتكافل والانسجام، أما اليونان فمكونة من جبال وسفوح منحدرة نحو البحر شجّعت أعمال القنص والرعي والصيد والقرصنة، وهذه كلها لم تستوجب التعاون والانسجام. وهكذا فالمجتمع الزراعي يميل بطبعه إلى الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية والمجال العام للأمور، بينما المجتمع الإغريقي يبرز الفردية والاهتمام بالموضوعات وصفاتها من غير حاجةٍ إلى النظر في تأثير الآخرين أو المجال العام عليها.

أما الفصل الثالث فيتطرق إلى بعض القيم الاجتماعية ويقارن بينها في المجتمعين الغربي والشرق-آسيوي. يوضّح المؤلف أنّ الغربيين يُعلون من قيمة الذات كثيرًا ويربّون أبناءهم عليها كي تكون لهم ذوات مستقلة متميزة متفردة، في حين لا نجد ذلك لدى الشرق-آسيويين، فـ"النجاح هدف منشود، باعتباره هدفًا جماعيًا، وليس وسام استحقاق شخصي" (ص62). والإنسان في شرق آسيا يرى ذاته متداخلة مع الجماعة التي ينتمي إليها في مقابل الجماعة الخارجية، فيما يرى الإنسان الغربي ذاته منفصلة مستقلة عن أي جماعة. الغربيون يهتمون بقيمة الاستقلالية وتنشئتها منذ الصغر، فنجد مثلا أن الطفل الغربي ينام في سرير مستقل، بينما ينام أطفال شرق آسيا على السرير نفسه مع أبويهم، ونجد أن الأبوين الغربيين يعلّمان طفلهما أن يستقل برأيه وخياراته، فيما يفضل الشرق-آسيوي أن يختار لطفله لأنه يعرف أكثر منه. من ناحيةٍ أخرى أبرز الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية في شرق آسيا اهتمامًا بمشاعر الآخرين وقدرة على تقدير مواقفهم وتفهمها، وهذا غير بارز في الثقافة الغربية التي تؤمن بالقواعد الكلية الشاملة التي يجب تطبيقها على الجميع دون النظر إلى ملاءمة الحالات الفردية. ولا يفوت المؤلف أن يؤكد أنّ ذلك لا يعني أن جميع المجتمعات الغربية أو الشرق-آسيوية سواء في ممارستها لهذه القيم. ومن أكثر أجزاء هذا الفصل إثارة حديث المؤلف عن فن الخطابة والمحاججة وغيابه في الفكر الآسيوي، مما يؤثر على عدة ممارسات حياتية مثل النقاشات الديمقراطية وكتابة البحوث العلمية، وكل ذلك يعتمد بشكلٍ كبير على المحاججة.

وفي الفصل الرابع يحاول المؤلف التدليل على أن هذه الفوارق النابعة من الإرث القديم ما تزال موجودة في المجتمعات الحديثة، ويوضح أن الصينيين القدماء رأوا العالم مؤلفًا من جواهر متصلة ببعضها، بينما رأى الإغريق العالم مكونًا من جسيمات مختلفة، ويستشهد المؤلف بعددٍ من الدراسات والتجارب التي تثبت أثر هاتين النظرتين على المجتمعات الغربية والشرق-آسيوية، حيث ثبت أن الآسيويين لديهم اهتمام أكبر بالمجال والبيئة المحيطة بالأشياء وتفهّم العلاقات بينها، بينما يهتم الغربيون بالموضوع نفسه وصفاته منفصلا عن السياق العام. وإذا كان الأمر كذلك فمن المرجح أنّ المهتمين بالسياق سوف ينظرون إلى أحداث العالم على أنها ناتجة من تفاعل عدة عوامل في عدة سياقات، بينما ينظر الآخرون إلى الأحداث على أنها ناتجة من خواص الموضوع نفسه، وهذا ما يحاول الفصل الخامس إثباته. يروي المؤلف أن طالبًا صينيًا خسر في جائزة تقدّم لها فطعن في قرار لجنة التحكيم ولكن دون جدوى، فأطلق النار على الأستاذ المشرف عليه والشخص الذي نظر في رسالة الطعن وعدد من زملائه ثم قتل نفسه. وبمقارنة ما كتبته الصحف الصينية بالصحف الأميركية تبيّن أن الأخيرة تُرجع الأمر إلى صفات الطالب وشخصيته (سيء الطباع، سوداوي، لديه مشاكل نفسية)، بينما تحاول الصحف الصينية تفسير الأمر من خلال سياق الأحداث (غيرة الآخرين، عدم الانسجام مع المجتمع الصيني، خلاف مع المشرف، السماح بحمل الأسلحة). وكي يتأكد الباحثون من أن الفارق هذا لا يعود إلى نُصرة الصحف الصينية لمواطنها درسوا قضية مشابهة كان فيها القاتل أميركيا، فلم تختلف النتائج. ويخلص المؤلف في هذا الفصل إلى أن الصينيين يميلون إلى إرجاع الأسباب إلى السياق، فيما يميل الأميركيون إلى إرجاع الأسباب إلى السلوك الشخصي.

بعد ذلك يناقش المؤلف قضية تصنيف الأشياء، ويبيّن أن الصينيين القدماء لم يميلوا إلى تقسيم الأشياء إلى فئات حسب تشابه خواصها، وإنما إلى تأثير بعضها في الآخر، فقد كانوا يهتمون بعلاقة الجزء بالكل. أما الإغريق الذين كانوا يهتمون بالموضوعات فقد قسّموا الأشياء إلى فئات واهتموا بعلاقة الفرد بالفئة، بحيث يمكنهم بسهولة وضع قانون واحد ينطبق على جميع أفراد الفئة. وهناك تجربة طريفة أُجريت لتأكيد ذلك حيث عُرضت على المشاركين صورة لقرد ثم سُئِلوا أي الشيئين يلائم صورة القرد أكثر: الباندا أم الموز؟ أما الأميركان ففضلوا التصنيف الفئوي واختاروا الباندا لأنه يشترك مع القرد في فئة الحيوان، وأما الصينيون ففضلوا التصنيف على أساس العلاقات واختاروا الموز لأن القرد يأكل الموز. ويقول المؤلف بأن ميل الغربيين إلى الفئات وقصور ذلك لدى الشرق آسيويين يمكن ردّه إلى أسباب فلسفية ولغوية، فالصينيون القدماء لم يهتموا بالفئات (والتي تحتاج إلى أسماء)، بل ركزوا على العلاقات (والتي تبرز الأفعال). هذا ويسهل في اللغات الهند-أوروبية تحويل الصفات إلى أسماء، ومن السهل التفرقة بين المعرف والنكرة، بينما لا يوجد ذلك في الصينية واليابانية، والرمز الواحد فيهما له عدة معاني، لذلك يعتمد المستمع/القارئ على السياق. يتبيّن من ذلك أن هناك تأثيرًا واضحًا للغة على الفكر.

بعد ذلك يستعرض الكاتب الاستدلال العقلي في المجتمعين الغربي والشرق-آسيوي، ويوضّح أن المنطق حاضر بقوة في التفكير الغربي الذي يمجد المحاججة، فيما يقل الاهتمام به كثيرًا في التفكير الشرق-آسيوي الذي يمكن أن يطرح المنطق جانبًا إن كان لا يتوافق مع النماذج المعروفة (وهذا لا يعني أنهم لا يجيدون استخدامه). أما الفصل الأكثر إثارة وإمتاعًا فهو الفصل الثامن الذي يناقش أثر هذه الاختلافات الفكرية على المجتمعات الغربية والآسيوية (مثلا، في الطب الغربي نجد الاهتمام بالجزء المسبب للعلة وإزالته، فيما يهتم الطب الشرق-آسيوي بالعلاقات بين أعضاء الجسد والتوازن بينها) ويتحدث المؤلف عن تجليات هذه الاختلافات في القانون والجدل والعلم والخطابة والعقود وحقوق الإنسان والدين والعلاقات الدولية. وفي خاتمة الكتاب يناقش المؤلف إطروحة فوكوياما في نهاية التاريخ وتوقفه عند النموذج الغربي، وإطروحة هنتنغتون في صدام الحضارات، ويرفضهمها معًا مبينًا أن المجتمعات الحالية تنهج فكرًا غربيًا في بعض المجالات وفكرًا شرقيًا في مجالات أخرى، مؤمنًا أن النهجين سيلتقيان ويثريان عادات الفكر والإدراك البشري.


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

14 أبريل 2010

النشر الإلكتروني..مازن حبيب نموذجًا


(نُشر هذا المقال في ملحق نون بجريدة الشبيبة، بتاريخ 13 أبريل 2010)

النشر الإلكتروني..مازن حبيب نموذجًا

أحمد حسن المعيني

إن كنتَ من المتابعين لعالم الإصدارات والنشر فبالتأكيد قد سمعتَ عن الجدل المستمر المتزايد حول العلاقة بين التقانة والكتاب، من حيث أثر المنتجات التقانية على معدلات القراءة، وتأثير القارئات الإلكترونية على مبيعات الكتب، ومشروع جووجل الكبير لرقمنة الكتب وتخزينها إلكترونيًا للراغبين في تصفحها. وفي الحقيقة فإن نشر الكتب إلكترونيًا أو ما يُعرف بالنشر الإلكتروني قد أصبح صناعة مستقلة لها دور نشر وموظفون ودورات تدريبية وبرامج حاسوبية ومواقع إلكترونية متخصصة. هي إذًن ثورة جديدة في عالم الكتب والقراءة، يختلف حولها الكثيرون، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر الاهتمام المتزايد بها والتطورات السريعة الحادثة فيها، والإمكانات الكبيرة التي تعد بها. في هذا المقال نستعرض بعض المعلومات المتعلقة بالنشر الإلكتروني ومزاياه ونقائصه، ثم نلقي نظرة على تجربةٍ عمانية تُعدّ من أوائل التجارب في مجال النشر الإلكتروني.

النشر الإلكتروني
إن المقصود بمصطلح "النشر الإلكتروني e-publishing" هو إنتاج الكتب والمستندات في صيغة إلكترونية لقراءتها عبر أجهزة إلكترونية مثل الحواسيب والهواتف المحمولة و القارئات الإلكترونية التي بدأت تنتشر في السنين القليلة الماضية وتكتسب إقبالا كبيرًا نظرًا لإمكانية تخزين أعداد كبيرة من الكتب فيها. وتندرج تحت النشر الإلكتروني أيضًا "الطباعة تحت الطلب print-on-demand" حيث يُمكن طباعة نسخة واحدة من الكتاب في كل مرة بدلا من آلاف الكتب في كل طبعة كما في دور النشر الورقية. هذا ويتخذ النشر الإلكتروني أشكالا مختلفة، فيُمكن أن يكون الكتاب أو المستند في ملفٍ يجب تحميله لقراءته، أو يُمكن قراءته مباشرة من موقع إلكتروني، وهناك كُتب تُصدر للتوزيع المجاني، في حين توجد كتب أخرى للبيع عبر دور نشر إلكترونية. وحاليًا هناك توجه كبير لدى المجلات العلمية للتحول إلى النشر الإلكتروني، أو على الأقل توفير نسخ إلكترونية من أعداد مجلاتها للبيع. هذا وتخصص بعض المكتبات الشهيرة على الإنترنت أقسامًا مخصصة للكتب الإلكترونية، مثل مكتبة "Amazon" و "Barnes & Nobles"، في حين توجد مكتبات متخصصة في الكتب الإلكترونية فقط نضرب مثالا عليها "المكتبة الإلكترونية العربية www.arabicebook.com". ويُمكن للمؤلف أن ينشر كتابه بنفسه، أو يتعاقد مع دار نشر إلكترونية تنشر له كتابه.

ميزاته
(1) تتجسد أكبر مزايا هذا النوع من النشر في خفض التكاليف؛ فيمكنك إنتاج مئات الآلاف من النسخ دون تكاليف طباعة و توزيع. (2) ولأنّ الأمر غير مكلف، فإن الناشر الإلكتروني لا يفرض معايير صارمة على المخطوطات المقدمّة، أي أنّ الكاتب الجديد الذي قد ترفض دور النشر الورقية نشر كتابه لديه فرصٌ أفضل مع الناشر الإلكتروني لأنه لن يخشى من خسارة مالية. (3) يُمكن توزيع الكتاب الإلكتروني إلى كلّ مكان في العالم بسرعةٍ شديدة بخلاف الكتاب الورقي. (4) لا تتطلب الكتب الإلكترونية مساحات كبيرة لتخزينها كما هو الحال مع الكتب الورقية، وهذا أمرٌ مقلق للناشرين. (5) يسمح الكتاب الإلكتروني بإدراج جميع أنواع الوسائط المتعددة كالصور والأفلام والتحريكات والأصوات لتعزيز المحتوى، وهذه ميزة رائعة لم تُستغل جيدًا بعد. (6) نسبة الأرباح التي يحصل عليها المؤلف من مبيعات الكتب الإلكترونية قد تصل إلى 70%، بينما لا تتعدى في الكتاب الورقي 15% (7) الكتب الإلكترونية أقل ضررًا بالبيئة.

نقائصه
(1) على الرغم من قلة التكاليف وزيادة نسبة أرباح المؤلف، إلا أن معدّل مبيعات الكتب الإلكترونية ما يزال ضعيفًا جدًا، حيث يُقدّر متوسط مبيعات الكتاب الناجح حوالي 500 نسخة فقط. (2) القارئات الإلكترونية والحواسيب ما تزال غالية الثمن وليست في متناول أغلب الناس، بخلاف الكتاب الورقي. (3) يمكنك قراءة الكتاب الورقي في أي مكان، بينما إن لم تكن تملك قارئًا إلكترونيًا أو هاتفًا محمولا مزودًا ببرنامج قراءة الكتب فلن يمكنك قراءة الكتب الإلكترونية إلا على حاسوبك المكتبي أو حاسوبك المحمول الذي لن تكون مرتاحًا لنقله معك أينما ذهبت. (4) القراءة الإلكترونية تتطلب إلمامًا بالتقانة، وهذا ما قد يستبعد شريحة كبيرة من الناس. (5) يتطلب النشر الإلكتروني تسويقًا كبيرًا للكتاب لأن القارئ لن يجده معروضًا في معارض الكتاب أو على واجهات المكتبات. (6) أسعار الكتب الإلكترونية حاليًا رغم انخفاض تكلفتها ليست أرخص بكثير من النسخ الورقية، وهو أمر غير مشجّع للقارئ. (7) الجهد المبذول لقراءة كتاب إلكتروني أكبر مما هو مع الكتاب الورقي، حيث يتطلب الأمر تشغيل الجهاز والضغط على الأزرار لتقليب الصفحات وتكبير الخط، إضافة إلى تحميل الكتب.

ونحنُ إذ نسرد هذه النقائص لا نتخذ بالضرورة موقفًا سلبيًا منها، والحقيقة أن سوق النشر الإلكتروني تتطور باستمرار، والأجيال الجديدة تقبل على الكتاب الإلكتروني أكثر من الأجيال السابقة، وهكذا فمن المتوقع أن تتغير الإحصائيات وبعض السلبيات المذكورة بعد سنين قليلة.

مازن حبيب..إلكترونيًا
خلال أيام معرض مسقط الدولي الخامس عشر للكتاب، كان هناك احتفاء مستمر ومهووس بالمؤلفات العمانية الجديدة، ما بين أخبار في الصحف والمواقع الإلكترونية، وحفلات توقيع، ومقابلات إذاعية وتلفزيونية، وأمسيات تدشين. كتّاب جدد وآخرون متحققون وآخرون يجرّبون، وكنا نستعد في كل لحظة أن نسمع عن كاتبٍ أو كتابٍ عماني جديد، ونستمع إلى النقاشات الدائرة بين الكتّاب عن دور النشر التي تعاملوا معها وانطباعاتهم واستيائهم أو رضاهم، والدور الجديدة المكتشفة. في خضمّ ذلك كله ودون سابق إنذار سمعنا عن كتابٍ جديد للقاص (مازن حبيب)، فاستغربنا أننا لم نجده في دور النشر المشاركة، حتى تبيّن لنا أن الكتاب إلكتروني غير مطبوع! وقد أثار ذلك أسئلة كثيرة حول هذه التجربة الجديدة، وتوقيت إصدار هذا الكتاب الإلكتروني بينما القراء كلهم منهمكون في أروقة معرض الكتاب.

كتاب "خارج مناطق الألم..مراعاة لفارق الجرح" عبارة عن يوميّات جاءت في 110 صفحات سجّلها المؤلف ما بين يناير 2007 و يناير 2009، تحدث فيها عن مشاهداته وانطباعاته وتأملاته الفلسفية والوجدانية. ومن أهمّ سمات الكتاب أنه واقعي يعكس حالات الإنسان المختلفة، فهناك الالتقاطات اليومية كأن يحدّثك عن عبدالكريم عبدالقادر أو رحلة بحثٍ عن فيلم، وهناك النظرة الفلسفية لأمور قد لا نقف عندها، وهناك الإسقاطات النفسية والاجتماعية على الحاضر أو الذكريات. كما تتجسّد الواقعية أيضًا في كتابة بعض اليوميات باللغة الإنجليزية، كون المؤلف يتقن هذه اللغة ويفكر بها أحيانًا (ولمعرفتي الشخصية بمازن كنت سأستغرب إن لم توجد يوميات إنجليزية في الكتاب). هذا وهناك أيام بل شهور كاملة لا نجد فيها أي يوميات، وهو أمر مُتوقع وطبيعي، حيث يمنعنا تقلب المزاج أو ظروف الحياة عن تدوين اليوميات، رغم أنّ هذه المساحات الفارغة قد تُشعر القارئ ببعض الإحباط. هو كتابٌ لطيف كتبه مازن حبيب بلغته السلسة الرشيقة والتقاطاته الذكية، تقرؤه في ساعةٍ أو نحو ذلك، إلا إن سمحتَ لنفسك بالتوقف للتفكير معه في ما يطرحه من أسئلة، أو استعادة ذكريات حركتها فيك ذكرياته.

عندما ننظر في تجربة مازن حبيب الإلكترونية نُلاحظ أنه استفاد من بعض المصادر والآليات المتعلقة بالنشر الإلكتروني. أوّل ما يلفت النظر ويستدعي التهنئة حقًا هو إنشاء إعلان مصوّر للكتاب، وقد أحسنَ مازن حبيب الاختيار حين ظهر في الإعلان داعيًا المشاهد إلى قراءة الكتاب، حيث إنّ ظهور المؤلف هكذا يخلق نوعًا من التواصل الافتراضي الحميم بين الكاتب وقارئه. ولقد راجت إعلانات الكتب المصوّرة مؤخرًا وخاصة في الغرب، وفي رأيي هي وسيلة إعلانية مُبدعة تعدّت حاجز الإعلانات التقليدية المطبوعة. من جهة أخرى حرص مازن على حفظ حقوقه مؤلفًا وناشرًا للكتاب، وذلك بإدراج صفحة في بداية الكتاب تشير إلى هذه الحقوق، إضافة إلى أن الكتاب جاء في صيغة (PDF) بحيث لا يسهل نسخ جزء من المحتوى ونقله. هذا واستفاد مازن من إمكانية إدراج الصور الملوّنة بسهولة، حيث نجد في إحدى اليوميات غلافا لفيلم يتحدث عنه.

ولكي لا يكون حديثنا مجرّد مديح وثناء، لا بدّ أن نسلّط الضوء على الجوانب الأخرى التي لم يستفد منها مازن حبيب في تجربته الأولى هذه. أولا، مع ثنائنا على استخدام فكرة الإعلان المصوّر، إلا أنّ من يعرف مازن حبيب السينمائي الذي أخرج أفلاما قصيرة لا بد يتوقع منه أكثر من ذلك بكثير، فتصوير إعلانٍ بسيط بهذه الطريقة قد يتناسب مع كاتبٍ آخر ولكنه أقل من المتوقع بالنسبة إلى سينمائي. ثانيًا، من الغريب أن المصمم عبدالباسط المعمري استخدم غلافًا بالأبيض والأسود في كتابٍ إلكتروني، في حين كان يمكن استخدام ألوانٍ تشدّ الانتباه نظرًا لغياب كلفة الطباعة. ثالثا، لم نلاحظ جدية مازن حبيب في تسويق كتابه إلكترونيًا، وهذا من أهم المتطلبات في النشر الإلكتروني. كان يُمكن لمازن مثلا أن ينشر إعلانات في المنتديات والمدوّنات العمانية كمرحلةٍ أولى حتى يصل الكتاب إلى أكبر عددٍ من القراء الإلكترونيين.

هي في الحقيقة تجربة جريئة جدًا خاصة في مجتمعاتٍ لم تعتد بعد على القراءة الإلكترونية. وأذكر أنني قرأتُ في منتدى من المنتديات الإلكترونية نقلا عن مازن حبيب أنه خاض هذه التجربة لعدم رضاه عن توزيع الكتب الورقية، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل سيكون توزيع كتاب مازن حبيب أفضل من توزيع دور النشر الورقية؟ أتطلع حقًا إلى انطباعات مازن عن هذه التجربة لاحقًا، وأتطلع أكثر إلى معرفة الأثر الذي ستتركه هذه التجربة على الكتّاب العمانيين الآخرين. سؤال أخير: في ظلّ تراجع نزعة التدوين الإلكتروني بين العمانيين، هل سنشهد موجة من الإصدارات الإلكترونية الجديدة للعمانيين، خاصة بين الكتّاب الجدد؟


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

13 أبريل 2010

مبادرات قرائية: مكتبات متنقلة في وسائل النقل


قرأتُ عن فكرةٍ جميلة في سوريا أتمنى أن تتحقق قريبًا، حيث يرغب اتحاد الناشرين السوريين في إنشاء مكتبات صغيرة متنقلة في الطائرات والقطارات، حتى يتسنى للمسافرين قراءتها أثناء الرحلة. وحسبما قرأت فإن المشروع سيقتصر على القطارات والطائرات ولن يتضمن الحافلات "الباصات" لأن الرحلات فيها قصيرة جدًا.

فكرةٌ ممتازة تهدف إلى نشر عادة القراءة في المجتمع. ألا يمكننا تطبيقها في عُمان والخليج، على الطائرات، وفي مترو دبي، وفي الحافلات ذات الرحلات الطويلة؟


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

12 أبريل 2010

قراءات: كتاب "تطور صورة الشرق في الأدب الإنجليزي"


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 7 أبريل 2010)
الشرق..من التشويه إلى المصداقية
عرض لكتاب "تطور صورة الشرق في الأدب الإنجليزي"


أحمد حسن المعيني

من المواضيع الهامة في الدراسات الأدبية استقصاء صور الشعوب والثقافات في الآداب المختلفة، حيث يشكل الأدب مادة شعبية ونخبوية ثرية لاستكشاف نظرة البشر وانطباعاتهم عن الشعوب الأخرى. وهناك العديد من الدراسات العربية التي تتناول هذا الموضوع، قد يكون آخرها عُمانيًا كتاب "غواية المجهول: عمان في الأدب الإنجليزي" للدكتور هلال الحجري. في هذا المقال نستعرض كتاب "تطور صورة الشرق في الأدب الإنجليزي" للدكتور ناجي عويجان بترجمة تالا صبّاغ، الصادر عن المنظمة العربية للترجمة عام 2008 في 228 صفحة.

الدكتور ناجي عويجان هو أستاذ اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة سيدة اللويزة بلبنان، وهو رئيس جمعية بايرون اللبنانية، ترأس المؤتمر الدولي الأول للأدباء اللبنانيين-الأميركيين والمؤتمر الدولي لتحديات الترجمة التحريرية والشفوية في الألفية الثالثة، كما أنه يشغل عدة مناصب أخرى في جمعيات أكاديمية وأدبية أخرى. صدر له كتابان باللغة الإنجليزية وقام بتحرير ثلاثة كتب أخرى، إضافة إلى ترجمة كتابين عربيين إلى الإنجليزية لأمين الريحاني وفريد مطر.

ينقسم الكتاب إلى مقدمةٍ يبيّن فيها المؤلف أهداف الكتاب وسياقه وحدود ما يتناوله، وفصلٍ أول يناقش صورة الشرق إلى ما قبل القرن السابع عشر، وفصلٍ ثانٍ للقرن الثامن عشر، وفصل ثالث أطول من سابقيه للقرن التاسع عشر. وقد امتنع المؤلف عن مناقشة صورة الشرق خلال القرن العشرين لـ"تنوع التعبير الأدبي الحديث الذي لم يعد يقتصر على المواد المطبوعة...وهذا الموضوع واسع وغني جدًا ليناقش في عمل وجيز كهذا" (ص13).

في الفصل الأول يتطرق المؤلف إلى الأصول التاريخية لاتصال الشرق بالغرب، وبيّن فيه كيف أنّ ظهور المسيحية أدى إلى المزيد من التواصل وتأسيس صورة عن الشرق من خلال كتابات الحجّاج والرحّالة وقصص الكتاب المقدس التي أذكت خيال الغرب بصور الشرق العجائبي على نحوٍ مشوّه ومبالغ في الخيال. وبعد ظهور الإسلام ووصوله إلى إسبانيا تحوّلت هذه الصورة الأسطورية إلى أخرى سلبية على يد الصليبيين الذين رأوا في الدين الإسلامي خطرًا وضلالا. ومن الإشارات المثيرة في هذا الفصل أنّ الأديب المرموق (تشوسر) أظهر الشرق في أدبه بصورةٍ سلبية ليس بالضرورة لأنه كان متحيزًا ضد الشرق، وإنما لأنه كان يتبع التقليد الأدبي السائد آنذاك في تصوير الشرق بتلك الطريقة، وأنّ عددًا من أدباء العصور الوسطى كانوا يصوّرون الشرق سلبًا رغم أنهم لم يزوروه، ولكنهم كانوا يثقون ثقة عمياء بالكتابات القديمة عن الشرق. ومع حلول عصر النهضة الأوروبية وتأسيس الشركات التجارية الكبرى أصبح سفر الإنجليز أكثر سهولة، واستطاع عددٌ من الكتّاب أن يزور الشرق ويكتب عنه بموضوعية دون تحيّز، إلا أن النفوذ العثماني الذي كان خطرًا على الغرب جُوبه بدعايات حربية صوّرت الأتراك (والمسلمين تبعًا لهم) بأبشع الصور. وفي هذا العصر ظهرت عدة كتب تاريخية عن الشرق، وعُرضت الكثير من المسرحيات عن الشرق تلبية لرغبة الجمهور المتعطش لمعرفة المزيد عن هذا العالم، إلا أنّ جوّ الدمار والقتل والحروب والخيانة والإجرام كان هو السائد على هذه الأعمال. حتى شكسبير نفسه لم يكن تصويره للشرق إيجابيًا، وعمد إلى استخدام الشرق لزخرفة أعماله. أما أكثر المسرحيات "الشرقية" شعبية فكانت للكاتب الشهير كريستوفر مارلو، وذلك لأنها أظهرت الشرق وحشيًا ضالا كما يتوقع الجمهور. وظلت الأعمال التاريخية وكتب الرحلات الموضوعية النادرة مُتجاهلة، في حين استمر الأدب الإنجليزي في تشويهه للشرق. أما الأعمال القليلة التي قدّمت معلومات حقيقية عن الشرق فكان أغلبها مترجمٌ عن مؤلفين فرنسيين.

وفي الفصل الثاني يتحدث المؤلف عن النقلة التي حدثت في القرن الثامن عشر من حيث ازدياد اهتمام الإنجليز بالشرق وانكبابهم على ما يُكتب ويُنقل عنه. في هذا القرن لم يكن الشرق يشكّل خطرًا سياسيًا أو عسكريًا على الغرب، وفيه سقطت الحكومات والامبراطوريات الشرقية، وتوسع النفوذ الاستعماري الغربي في الشرق، وازدهرت الشركات التجارية الغربية الموغلة في أرض الشرق. ونتيجة لهذا الازدهار اهتم الشعب الإنجليزي ببضائع الشرق وآثاره، وأصبح في مقدور الكثير من الإنجليز الترحال والكتابة عن الشرق وكانوا يرون بأن لهم دورًا في تثقيف الشعب الإنجليزي وتصحيح مفاهيمه حول الشرق. ويذكر المؤلف أن من أهم المصادر التي أثرت الكتّاب الإنجليز كتابات المستشرقين التاريخية وترجماتهم لأدب الشرق، مثل "ألف ليلة وليلة" و "القصص التركية" و"القصص الفارسية". ومن أكثر المعلومات إثارة في هذا الفصل تأثير هذه الأعمال الأدبية المترجمة على الأدباء الإنجليز، فيناقش المؤلف تأثير الأعمال المذكورة آنفًا على تطور القالب القصصي الإنجليزي وتأثر عدد من الكتاب بها مثل الكاتب الشهير جوناثان سويفت في روايته "رحلات غوليفر"، فتقول الباحثة مارثا بايك كونانت: "الليالي العربية كانت عرّابة الرواية الإنجليزية" (ص72). ومن تأثير هذه الترجمات أيضًا أن تحوّل الاهتمام من الجوانب الدينية في الشرق إلى الجوانب الفنية الإبداعية. وفي القسم الأخير من هذا الفصل يستعرض المؤلف بعض الإشارات الشعرية والمسرحية للشرق، ويناقش بتفصيل عملين من أكثر الأعمال الأدبية تأثيرًا في تطوير صورة الشرق هما "راسلاس" لـ(صمويل جونسون) و "فاتك" لـ(وليم بيكفورد). وتكمن أهمية العمل الأول في تصويره للشرق بأنه مكان واقعي وليس سحريًا غرائبيًا، وأنه مكان للسلام والمحبة والحكمة لا للحروب والبطش والجهل، ومكان لديانات جديدة مختلفة لا ديانات ضالة، وهكذا يكون "[صمويل] جونسون هو الشخصية الأدبية الأولى التي تحدت آراء أسلافها المتحيزة" (ص95). وأما العمل الثاني فقد تميّز بدقة التفاصيل الحقيقية وثرائها في مجالات عديدة من الشرق بحيث بدا مؤلفه مرجعًا يُعتمد عليه.

وأما الفصل الأطول (الثالث) فقد نظر أولا في أحوال القرن التاسع عشر وأثرها على صورة الشرق في الأدب الإنجليزي، مبينا أن الظروف السياسية التي ترتبت على الحملة الفرنسية على مصر وحرب الاستقلال في اليونان وتقدّم المعرفة العلمية والتاريخية قادت إلى تعاطف شعبي إنجليزي مع الشرق ورغبة عارمة في المزيد من المصداقية في الكتابات عنه. هذا وقد زاد اهتمام أوروبا بدول الشرق نظرًا لوجود نسبة كبيرة من المسيحيين فيه تحت سلطة الدولة الإسلامية، إضافة إلى الأسباب الأخرى التي دفعت إلى التحرك الاستعماري لدول الشرق. وعلى إثر ذلك ازداد اهتمام الرحالة والباحثين بمصر وفلسطين وتركيا لدراسة آثارها وجغرافيتها وعادات شعوبها، وقد قدّموا-وفق كلام المؤلف- صورًا موضوعية إيجابية عن الشرق مما أكسب مؤلفاتهم شعبية واسعة النطاق. ومن بين العوامل المؤثرة الهامة أيضًا تأسيس الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانيا العظمى وأيرلندا والتي خصصت صندوقًا للترجمة لتشجيع الدراسات والترجمات فيما يتعلق بالأدب والثقافة في الشرق. وما نلاحظه في هذا الفصل هو أنّ الرحالة لم يكتفوا بزيارات سريعة كمن سبقهم، بل كانوا يقيمون لفتراتٍ طويلة في الشرق ويندمجون مع الشعوب الشرقية للتعرف عن قرب على طباعهم وعاداتهم وتراثهم. ويناقش المؤلف ثيمة هامة وهي تأثر الشعراء الرومنسيين بالشرق، حيث أصبحت المكوّنات الشرقية جزءا أساسيًا في شعرهم، وذلك لأنهم كانوا يبحثون عن الغريب وغير المألوف رغبة في إذكاء خيال القارئ الإنجليزي. وهكذا يستعرض المؤلف بعض الأعمال لأشهر الشعراء الرومنسيين مثل (كيتس) و (وورزدورث) و (شيلي) مبينًا كيفية استخدامهم لصور الشرق. أما الأثر الأكبر في تطور صورة الشرق فكان للشاعر الكبير (اللورد بايرون) والذي تولّع بالشرق منذ صغره، وانكبّ على التهام الكتب التي تتناول الشرق، إلا أنه لم يكتب شيئًا عن الشرق قبل أن يقيم فيه. هذه العناية الفريدة بالمصداقية هي التي أكسبت أعمال بايرون الشرقية إعجابا كبيرًا ونجاحًا واسعًا. بعد ذلك وضّح المؤلف خفوت الاهتمام بالشرق في العصر الفيكتوري، فلم يهتمّ من الكتاب الفيكتوريين بالشرق اهتمامًا ملحوظًا إلا اثنان هما (إدوارد فيتزجيرالد) و (توماس كارلايل). أما الأول فهو الذي ترجم رباعيات الخيام إلى الإنجليزية، ومعروفٌ أن هذه الترجمة نجحت نجاحًا باهرًا رغم (أو بسبب) عدم التزامها بالأصل، وكان لها أثر كبير على القراء الإنجليز. وأما توماس كارلايل فقد قدّم محاضرة هامة بعنوان "البطل كنبي، ومحمد والإسلام" ضمن سلسلة محاضرات عن الأبطال في التاريخ، وتطرق فيها إلى شخصية النبي محمد (ص) والدين الإسلامي، وأظهرهما بصورة إيجابية لم يعتد الجمهور الإنجليزي عليها. ولقد جاء في المحاضرة آراء "جريئة" حول النبي والقرآن وانتشار الإسلام على نحوٍ موضوعي حيادي، أثّرت على عددٍ من الأدباء الإنجليز، وصححت المفاهيم المغلوطة عن النبي والإسلام، ويقول المؤلف "أما بعد هذه المحاضرة فلم تتجرأ أي شخصية أدبية غربية على تشويه صورة الشرق والإسلام...[و] اتبع عدة أدباء إنجليز أسلوب كارلايل الموضوعي وغير المتحيز في معالجة الشرق وحضاراته" (ص193).

هو كتابٌ ممتع وغنيّ بالمعلومات والاستشهادات التي تقدّم للقارئ الكريم فكرة جيدة عن صورة الشرق في الأدب الإنجليزي حتى القرن التاسع عشر. كنتُ أتمنى من المؤلف أن يتحدث بإسهاب في المقدمة عن مفهوم الاستشراق كما وضّحه إدوارد سعيد سواء اتفق مع رؤيته أم لا، وذلك لأهمية هذا المفهوم في دراسةٍ كهذه. كما أعتب على المؤلف أن يُنهي بحثه بخاتمةٍ قصيرة لم يتوسع فيها بتحليل الاستنتاجات ومقارنتها بما وجده باحثون آخرون في الموضوع نفسه.


لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

07 أبريل 2010

قراءاتكم: كتاب "سعفة تحرك قرص الشمس" (قراءة: مريم العدوي)


قراءة لكتاب / سعفة تحرك قرص الشمس .
أوراق نقدية من أماسي كتّاب القصة في عُمان لعامي 2007و2008م .

عن الكتاب /
العنوان / سَعفة تحرّك قرص الشّمس
المجال / نقد
إعداد / سليمان المعمري( رئيس أسرة كتاب القصة 2007-2009 )
مازن حبيب ( نائب رئيس أسرة كتاب القصة 2007-2009)
الناشر / مؤسسة الانتشار العربي النادي الثقافي
عدد الصفحات / 192 صفحة
الطبعة الأولى 2009م

القراءة /
( يأتي هذا الكتاب ثمرة جهود عاميين متتاليين من نشاطاتِ فعاليات أسرة كتّاب القصة في عُمان ، بالنادي الثقافي ، والتي انتظمت في أكثر من أربعين من أمسياتها الدورية في الفترة الممتدة من يناير 2007 إلى يناير 2008 .) .....من مقدمة الكتاب .

الكتاب يشكل نافذة واسعة الأفق ، مطلة على سماء القصة العُمانية التي بدت في أواخر السنوات الماضية تحجز لها مقعداً مرموقاً بين القصص العربية ، ( ولعل الرائي من الأرض إلى السماء عبر الفراغات التي تحدثها الريح لدى تحريكها لسعفات النخيل ، قد يتراءى له أن هذه السعفات هي التي تحرك ببطء قرص الشمس الذي ربما لم تعد تحركه قوانين حركة الأجرام الكونية ، بل قوى الحدث الذي ينسج في البعيد) . ...من مقدمة الكتاب .
الجميل في الكتاب بأن مادته رغم كونها نقدية إلا إنها ممتعة ، فأنت تتنقل بين رحاب أقلام متعددة لكتّاب ، نقاد وقصّاص عُمانيين لعلك تتعرف على بعضهم للمرة الأولى .

وتأتي أهمية هذا الكتاب ليس فقط من زاوية كونه حجر أساس في نهضة القصة العُمانية التي استعادت روحها بفضل نخبة من المثقفين العُمانيين اللذين بلا شك يبذلون جهدا مضني لإيصال القصة العُمانية إلى المكانة التي تستحقُها بل وكذلك لأنه يُعطي المجال لعشّاق القصة القصيرة في عُمان لتعرف على كل إنجازات القصة العُمانية في أواخر السنوات المنصرمة.
فأنت من خلال مطالعة هذا الكتاب سوف يكون بإمكانك تذوق مواد مختلفة المشارب – أجاد معدو الكتاب اختيارها – حيث إن الاختيار كما تبين لي من خلال مطالعتي للكتاب اعتمد على التنويع في الأفكار فبينما مجموعة – مازن حبيب – اتخذت من الذاكرة معين تغرف منه أفكارها فإن - فاطمة قلم الهنائي - وجدت لها معين آخر وهو الحكاية الشعبية وبهذا يمكنك التعرف على أسلوب العديد من القصّاص والكتّاب على حد سواء .

يحمل الكتاب 12 أمسية ل12 عملاً يُقدم له في كل مرة كاتب مختلف وهو الأمر الذي جعل من الكتاب ممتعاً وأقل دسامة في مادته كما هو من المعتاد لكُتب النقد .

يبدأ الكتاب بمجموعة مازن حبيب ( الذاكرة ممتلئة تقريبا ) تحت عنوان: (ملاحظات أوليّة على انزياحات – الذاكرة – وضمير السرد والمكان واللغة في مجموعة – الذاكرة ممتلئة تقريبا - ) لسالم آل توّيه ، وينتهي بمجموعة سعيد الحاتمي ( رائحة لم ينتبه لها أحد ) تحت عنوان :( في رائحة الحاتمي : هل يصل الكاتب إلى ما خبأه ؟!) لهلال البادي ، مزوداً في آخر أوراق الكتاب بأجندة الأنشطة الداخلية لأسرة كتاب القصة العُمانية لعامي 2007 و2008م و ببلوغرافيا المجموعات القصصية العُمانية الصادرة من عام 2000 إلى عام 2008م .

الكتاب قيّم ورائع جداً وهو من خيرات النادي الثقافي العُماني الذي نتمنى ألا تنقطع خيراته التي هي من الدعامات الأساسية في الحراك الثقافي العُماني الذي نتفاءل له بمستقبل مشرق.
دمتم بخير ...

لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

04 أبريل 2010

دردشات: هل تحنّ إلى كتب المراهقة؟


في معرض مسقط للكتاب 2010 اشتريتُ مجموعة من روايات "رجل المستحيل" لأخي الأصغر في محاولةٍ لتحبيبه في القراءة. وجدته يلتهمها وينكبّ عليها في كل وقت، وفي أثناء ذلك أخبرتني زوجتي بأنها تشعر برغبةٍ في العودة لقراءة روايات الجيب هذه، ولا أخفيكم أنني كذلك شعرتُ بحنين إليها.

هل تشعرون بحنين إلى الكتب التي قرأتموها في أيام الطفولة والمراهقة، كروايات رجل المستحيل وملف المستقبل، وروايات أجاثا كريستي وآرسين لوبين وروايات عبير، وغيرها من الكتب؟

أي الكتب التي تحنّ إليها؟




لقراءة نصّ الموضوع كاملا»

قراءات: رواية "حفلة الموت" لفاطمة الشيدي


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان بتاريخ 31 مارس 2010)

تغييب الأنثى..ما بين الأسطورة والواقع
عرض لرواية "حفلة الموت"

أحمد حسن المعيني

كتبتُ مقالا فيما مضى عن روايةٍ أميركية من روايات الخيال العلمي بعنوان "Sandstorm" تدور أحداثها حول أسطورة "أوبار" في جنوب عُمان، واستغربتُ حينها أنّ العمانيين أصحاب هذا الإرث لم يوظفوه في عملٍ أدبي، بينما جاء كاتب أميركي واستخدمه إبداعيًا. وقبل أيامٍ كنتُ أتحدث مع أحدهم فذكر لي حكاية ذات نكهةٍ أسطوريةٍ شعبيةٍ حدثت في عائلته وأكاد أجزم أنها متكررة في الذاكرة الشعبية العمانية، وهي تصلحُ بامتيازٍ أن تكون قصة قصيرة أو أساسًا لرواية ممتعة. لا شكّ لديّ في أنّ المخزون الشعبي العماني يحفلُ بعشرات الحكايات والأساطير التي تنتظر التوظيف الأدبي بطريقةٍ أو بأخرى. في هذا المقال نتحدث عن أحد الأعمال الأدبية التي استخدمت أسطورة عمانية شعبية هي "المغايبة" (أولئك الذين يأخذهم السحرة ثم يعودون إلى حياتهم) وتناولتها بطريقة جديدة، وهي رواية "حفلة الموت" لـ(فاطمة الشيدي) التي صدرت عام 2009 عن دار الآداب في 152 صفحة. والمؤلفة ناقدة وأكاديمية عُمانية لها دراسات نقدية كما أنها شاعرة أصدرت ثلاثة دواوين شعرية. وسنرى أنّ الرواية التي نحن بصددها تعكس شخصية المؤلفة، حيث الحضور الشعري الطاغي، وحيث التوظيف الإبداعي لمفردات الثقافة الشعبية أو إخضاعها للدراسة والتحليل، وهو ما يُنتظر حقًا من الأكاديميين.

أولُ ما يشدّ الانتباه في هذه الرواية غلافها، حيث نصطدم بعنوانٍ محيّر، ولوحةٍ فنية مثيرة . أما العنوان فكان اختياره موفقًا جدًا لجذب القارئ، إذ ما الذي يُمكن أن يجمع بين الاحتفال والموت؟ وأما اللوحة فنرى فيها رجلا وامرأة كل منهما إلى طريق مختلف، الرجل واضح المعالم نسبيًا واضح الألوان، أما المرأة فلا نرى منها إلا السواد، كأنها ظل، كأنها كائن بلا روح. وبين الرجل والمرأة نجد قطًا أسود له عينان برّاقتان ينظر مباشرة إلى القارئ. حقيقة لا أعرف هل تُعتبر هذه اللوحة موفقة أم لا، فهي من ناحية تهيئ القارئ للمناخ العام للرواية، إلا أنها -مع الغلاف الخلفي- تشي بأكثر مما ينبغي.

جاءت هذه الرواية القصيرة في 15 فصلا تتوزع أحداثها ما بين نزوى ومسقط والبحرين ولندن. تبدأ الرواية من الحاضر في جامعةٍ بحرينية حيث تتولد شرارة حبٍ بين بطلة الرواية الطالبة العمانية (أمل) ورئيس جماعة الفنون التشكيلية في الجامعة (أحمد الريّان). وتنجحُ المؤلفة في إثارة القارئ وتشويقه منذ الصفحات الأولى وفي سطورٍ بسيطة يُفهم منها أن هناك ماضٍ في حياة (أمل) يقف في وجه هذا الحب الوليد، حيث تقول: "أيها المجنون لا تلاحقني...ابتعد عني، فالمستحيلات في عمري أكثر من الغول والعنقاء والخلّ الوفي...يا إلهي، احمني منه، واحمه مني" (ص10-11). ورغم وعي البطلة بهذه المستحيلات إلا أنه وكالعادة في قصص الحب الجامعية تأبى هذه المشاعر إلا أن تتحقق في علاقة حب لا تعترف بحواجز ولا تنظر إلى مستحيلات. ومن هذا الحاضر نعود إلى الماضي لنكتشف السرّ الكبير في حياة (أمل) وما يشكله من عوائق لعلاقة حبها بأحمد. وبعد انتهاء الدراسة تعود أمل إلى عمان ويقلّ تسارع الأحداث ليدخلَ القارئ في حديث ذاتي طويل تسترجع فيه أمل الذكريات وتقرأ الواقع، ثم تسافر إلى لندن للدراسة ويبدأ تسارع الأحداث إلى أن تنتهي الرواية هناك في بلد الضباب.

من حيث البناء السردي اختارت المؤلفة أن تُروى الرواية من أولها إلى آخرها بصوت البطلة أمل، وهو خيارٌ مفيد جدًا للرواية حيث إن القارئ لا بد يتشوق لأن يرى الأشياء كما رأتها وشعرت بها صاحبة التجربة أو الضحية. ويُلاحظ في الرواية ندرة الحوار، واعتماد المؤلفة على المناجاة الذاتية "المونولوج". وعلى الرغم من المتعة التي تحققها هذه المناجاة في سردٍ لتجربةٍ أليمة تكشف صراع النفس مع الآخرين ومع ذاتها، إلا أن المؤلفة ربما بالغت في استخدامها حيث نجد صفحاتٍ طويلة لا يقطعها إلا سطران أو ثلاثة من الحوار، مما يسبب نوعًا من الرتابة.

ولا بدّ لنا من الاعتراف بالطريقة الجميلة التي تناولت بها المؤلفة أسطورة "المغايبة"، حيث يجد القارئ سردًا لعملية "التغييب" يُشبع قدرًا من فضوله، ويضفي على الرواية جوًا غرائبيًا ممتعًا، بدءًا من رؤية "المعلّم" للفتاة ثم سرقتها ثم إدخالها في تلك الطقوس الشيطانية وانتهاءً بعملية إعادتها إلى الحياة. ولقد أجادت المؤلفة في وصف كل ذلك و التبعات الغرائبية لاحقًا في الرواية لتكسر رتابة الأحداث. وبعد أن تصل المؤلفة بالقارئ إلى قمة الترقب والاندماج مع هذا الجو الأسطوري تختتم الرواية بحدثٍ غير متوقع، قد يكون رسالة جريئة من المؤلفة سيقف عندها القارئ -العماني خصوصًا- وقفة طويلة مُسائلة.

وفي الحقيقة فإن قضية "المغايبة" ليست الثيمة الرئيسة في الرواية أو مرتكزها الأساسي، فكان يُمكن استبدال هذا المكوّن الأسطوري بقضية اجتماعية أخرى تقف عائقًا أمام أحمد وأمل. في رأيي هذه الرواية نسوية بامتياز، وما جاء استخدام "المغايبة" إلا رمزًا لخدمة هذه الثيمة. فالتغييب الأسطوري رمز للظلم الواقع على المرأة من سلطة المجتمع الأبوي وسلطة من يتحدثون باسم الدين ومن النظرة الاجتماعية القمعية العنصرية، ورمز لتغييب المرأة فكريًا واجتماعيًا واختصارها إلى مادة للمتعة. نجد البطلة تهاجم الرجال بكل قسوة، تصفهم أحيانا بـ"حيوانات كأبي وعمومتي وجميع أبناء البلدة" (ص13) وأن كلا منهم "نخاس يبحث عن جارية لبيته" (ص13) و "لا يعرفون سوى الطعام والجنس ودور السيادة" (ص91)، ثائرة على كل ذلك حيث تقول لأمها "لن أتزوج أي حمار ورث النهيق، كما ورث كل صفات الرجولة المزعومة" (ص90)، مستنكرة موقف النساء الراضيات بهذا الدور، وفي أواخر الرواية في رسالة إلى حبيبها تصف ما تنتظره من الرجل في معاملته إياها. هي رواية النساء المظلومات المخدوعات المقهورات، بدءًا من "العبدة" التي انتهك الشيخ شرفها ثم اضطر لتزوجها، وانتهاءً بزميلات أمل في لندن اللائي يشتكين من رجالهنّ. وسيلاحظ القارئ بوضوح أن الشخصيات الذكورية في الرواية سيئة جدًا ، فهناك الساحر، وهناك الأب السيد السجّان القاتل، وهناك الخائن والمتحرش جنسيًا والعنصري، أما الاستثناءات فهي خارج بلدة البطلة: الحبيب في البحرين، والزميلان في مسقط، والطبيب في لندن.

وأما عن الاستخدام اللغوي في الرواية فيمكن الحديث عنه في عدة نقاط. أولا، نجد أن اللغة مُغرقة في الشعرية، وهذا بالطبع مُتوقع وليس بغريب على شاعرة مثل فاطمة الشيدي، ومن استمتعَ بروايات أحلام مستغانمي ومحمد حسن علوان مثلا سيجد نشوة لغوية كبيرة في هذه الرواية، حيث سيقرأ مقاطع بديعة من قبيل "فأن تكون كائنًا متألها بالحزن والجنون معًا، صوتًا متفردًا ومقدودًا من جرح شهي على ناصية موت في الآن ذاته، فتلك معادلة غير عادلة!" (ص31). ونحن إذ نعترف بهذه اللغة الجميلة لا بد أن نشير إلى أنّ فاطمة الشيدي الشاعرة طغت على الروائية، فانعكس ذلك في لغةٍ حالمةٍ متكلفة غير واقعية أحيانًا وغير مقنعة في سياقها خاصة في بعض الحوارات. فمثلا في بداية حوار بين الحبيب والحبيبة يسألها قائلا: "أيتها الأمل مذ رأيتكِ رأيت يدَ الله مفتوحة لتقدم لي الحياة، وتنهي رحلة البحث..كيف هي غاليتي؟" فتجيبه: "متصدعة كأرض جرفها الوادي وتشققت أخاديد وصدوعًا، متكسرة كمرآة حجرتي القديمة، متبعثرة كوجهي في تلك المرآة" (ص65)، وهذه لغة تبدو أقرب إلى فاطمة الشيدي منها إلى أمل أو أحمد. ثانيا، استخدمت المؤلفة اللغة العامية في الحوارات كي تضفي واقعية للنص وتمثيلا للمكان والثقافة التي تنتمي إليها الشخصية المتحدثة، إلا أنّ هذا الاستخدام كان مرتبكًا وغير دقيق. فمثلا اللغة التي يستخدمها أحمد لا تمثل جنسيته البحرينية أو لهجة أمه العراقية خير تمثيل، بل إن هناك كلمات يستخدمها هي أقرب إلى الكويتية مثل "مو الشكل، طيبين حيل، يا معودة". هذا ولا نجد في كلام أمل ووالدتها وأهل نزوى ما يمثل لهجة المنطقة الداخلية، بل هناك كلمات من مناطق أخرى في عمان مثل "شو؟ [أي ماذا؟]" و "مًشِي [أي لا يوجد]"، فهل هذه اللهجة العمانية البيضاء التي تجمع بين مناطق عمان مقصودة لغرض أرادته المؤلفة؟ أما الملاحظة الأخيرة فهي محاولة الكاتبة المزج بين العامية والفصحى في الحوارات، وهي تقنية استخدمها روائيون آخرون بطريقةٍ رائعة في مستوى وسطٍ بين العامية والفصحى، إلا أن المؤلفة لم تُوفق كثيرًا في هذا الاستخدام بسبب عشوائيته وعدم ثباته، حيث تُقحَم العامية في موضع، وتختفي تمامًا في مواضع أخرى في الرواية دون معيار واضح أو ثابت.

ختامًا نقول بأنها بداية روائية جيدة وظّفت أسطورةً عمانية لخدمة ثيمتها بصورة فريدة، وكان يُمكن أن تكون أكثر إمتاعًا وأكثر إقناعًا لو ابتعدت عن المباشرة في طرح القضية النسوية التي جاءت في بعض المواضع فيما يشبه الخطابات النسوية التي ألفناها في الكثير من المقالات والخواطر الأدبية وأشعار نزار قباني.

لقراءة نصّ الموضوع كاملا»