25 يناير 2011

قراءاتكم: رواية "ليلة التنبؤ" لبول أوستر (قراءة: هدى الجهوري)


(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات بجريدة عمان، 24 يناير 2011)

ليلة تنبؤ بول أوستر: نسقط لنبدأ الحياة في مكان آخر

عرض: هدى الجهوري

بخفة غير معقولة يمكنك في ليلة تنبؤ أوستر أن تنتقل من حكاية لتدخل إلى حكاية أخرى، من دون أن تقع للحظة في فخ الخلط بين الحكايات، هذا إذا ما افترضنا أنك قارئ منتبه لما يدور في حياة سدني أور بطل الرواية، وما يدور داخل حكاياته الأخرى التي يكتبها.
أنهيت مؤخرا قراءة رواية "ليلة التنبؤ" للأمريكي بول اوستر الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، بترجمة محمد هاشم عبد السلام، ضمن سلسلة إبداعات عالمية العدد 370 فبراير 2008، وربما كان من المتعب لأي قارئ منا، أن لا تكون هنالك فصول أو مقاطع أو حتى عناوين فرعية، فكل الأحداث تهاجمك دفعة واحدة، وتضطرك أن تبقى منتبها، ويقظا لكي لا يفوتك تفصيل صغير يفصل بين حياة سدني، وبين الكتابة التي يكتبها، ولكن بذكاء كتابي مدهش تمكن أوستر من صناعة فواصله الخاصة لينقلنا من زمن لآخر، حيث إنه جعل من القارئ شريكا جيدا في عملية التنبؤ التي يستشعر من خلالها: أين تقع الحياة، وأين تقع الكتابة؟.
*******
إنها عدّة حكايات، تبدو منفصلة عن بعضها البعض، ولكن الرابط الوحيد فيما بينها هو البطل سدني أور، في الرابعة والثلاثين من عمره، ينجو بأعجوبة من موت محقق بعد سقوطه من على السلالم، وإصابته بكسور بالغة ومشارفته على الموت. بعد أن يخرج من المستشفى، يفكر بمعاودة الكتابة، فكان أن أغراه كراس أزرق في محل للقرطاسيات يحمل اسم:"قصر الورق".
نخرج من الحكاية الأولى إلى الحكاية الثانية، ما أن ينصح الروائي والصديق العجوز جون تروس صديقه سدني بالكتابة. نصحه أن يبدأ من فكرة روائي أمريكي آخر اسمها "الصقر المالطي" للكاتب الأمريكي الشهير داشيل هاميت، عن رجل تسقط بالقرب منه بقايا بناء، ويكون على وشك الموت، فيفكر أن تلك هي إشارة لضرورة أن يغير حياته، وأن يبدأ حياة أخرى. حياة أخرى تنقطع تماما عن الحياة السابقة.

ويبدو أن كل شخصيات هذه الرواية تعيش هذه الحالة، وهذه الرغبة في أن تنفصل عن ماضيها، لتبدأ حياة أخرى، وجديدة منعزلة عن الذاكرة السابقة..ولكن هنالك بالفعل من ينجح في ذلك بقرار صغير يتعلق بـ"التمزيق" على سبيل المثال، هنالك من يفشل في ذلك.
يبدأ سيدني بالكتابة عن نيك بوين الذي يسقط بالقرب منه مزراب يكاد يقضي عليه، ولكنه ينجو من الموت، فيقرر أن يبدأ حياة جديدة في مكان آخر، بعيدا عن زوجته، وماضيه. نعيش نحن القرّاء كتابة الرواية منذ كلمتها الأولى، وندخل في تفاصيلها، نيك بوين هو قارئ نصوص في دار نشر كبيرة، وقبل الحادثة تُرسل له حفيدة كاتبة أمريكية من مطلع القرن العشرين اسمها سيلفا ماكسويل رواية جدتها التي تحمل عنوان "ليلة التنبؤ"، فتكون الرواية هي الشيء الوحيد الذي يفكر نيك أن يصطحبه معه من الماضي، بعد ما يقارب أربعين صفحة من كتابة رواية نيك بوين، نكتشف أن سدني يُلقي ببطله نيك في مأزق كبير، حيث يُحبس تحت الأرض في ملجأ مضاد للأسلحة النووية، ولا يستطيع سدني أن يخرجه بمعالجة كتابية منطقية، لذا يبقى في مكانه.
******
الروايات لا تكتب بسهولة..هذا ما كان يحاول أوستر أن يقوله لنا، فالكاتب الروائي وصل إلى طريق مغلق، ولم يعرف كيف يُخرج شخصيته منها، لذا ترك الكتابة، ثم أخرجنا من تلك الحكاية التي يكتبها إلى حياته الشخصية، علاقته مع زوجته جريس التي يحبها كثيرا، ومن ثم يكتشف حملها غير المخطط له، والحاجة إلى المال، فيبدأ بكتابة سيناريو فيلم مأخوذ من رواية "آلة الزمن"، فيأخذنا إلى عالم مختلف من أشكال الكتابة الخيالية، يدخلنا في أبسط الأفكار التي طرأت في ذهنه ليطور السيناريو بطريقة تناسب طريقة أفلام هوليود، لكن السيناريو الذي كتبه في زمن قياسي تم رفضه. يرينا أوستر هنا وجها آخر من حياة الكاتب الغارق في الديون، والذي يكون مستعدا لكتابة أي شيء ليواجه نفقات العيش المستمرة، وليحافظ على طفل قادم.
*****
التغيرات التي أصابت حياة الزوجة جريس، دفعت سدني لأن يفكر في أن الطفل الذي تحمل به ليس ابنا له، وإنما هو ابن صديقهما المشترك الروائي العجوز جون تروس، مما يعني وجود علاقة منحرفة، فقد تربت جريس منذ طفولتها الباكر بين يدي تروس صديق والدها. هذه الهواجس أعادت سدني أور إلى دفتره الأزرق مجددا، ولكن ليس لكي يُخرج نيك بوين من حبسه وعزلته، وإنما لكي يكتب عن العلاقة التي تقوم بين جريس الزوجة، وتروس الصديق، وسدني الزوج، في محاولة جديدة من الراوي للتنبؤ بما كان يجري في الخفاء، التنبؤ المبني على الوقائع التي حصلت أصلا في حياة الشخصيات الثلاث، كتب سدني الحكاية الثانية بعقلانية كبيرة، وبتعاطف هائل مع جريس، فحتى خيانتها مع الصديق، كانت مبررة ومقبولة لديه شريطة أن تبقى إلى جواره، إنه يعذر ضعفها، فهو أيضا كان ذات يوم ضعيفا أمام امرأة سمراء، وأقام علاقة جسدية معها، بالرغم من أنه كان يحب زوجته كثيرا، فهل كان يغفر لجريس خطاياها، لكي يخفف من شعوره بالندم إزاء تلك النزوة؟..ربما.
******
في مستوى آخر من الحكاية يظهر لنا فجأة ابن تروس جاكوب الذي يكره جريس، وقد بصق ذات يوم في وجهها، وسدني يكتب أن ذلك الحقد من قبل الابن مبرر في حالة وجود علاقة منحرفة بين والده وبين جريس. لذا ليس من الغريب أن ينتهي الأمر بجاكوب متعاطياً للمخدرات إلى أن يضرب جريس ضربا مبرحا في بطنها حتى تفقد الطفل نهائيا، المفارقة الغريبة أن جون تروس يموت بأزمة قلبية في الليلة نفسها الذي يموت فيه الجنين.

نحن القرّاء كنا نحاول أن نتنبأ أيضا بعدة أشياء، إلى جوار ما كان يستعرضه سيدني أور لنا، كالتنبؤ مثلا بمصير بطل الرواية نيك، وبرواية "ليلة التنبؤ" لـ سيلفا ماكسويل، التي تصفحنا بعضا منها، وما ان أغلقها نيك، حتى أغلقت تفاصيلها الأخرى في وجهنا، ولم نعرف ماذا حدث فيها بعد ذلك. كنا أيضا نحاول التنبؤ بعلاقة حلم جريس والباب الذي أغلق عليها وعلى سيدني، وعلاقة ذلك بـ نيك المحبوس في الرواية. نفكر بذلك الشاعر الذي كتب عن موت طفل غرقا، ومن ثم تموت ابنته غرقا، فيعتزل الكتابة نهائيا بالرغم من شهرته الكبيرة؛ لأنه آمن بالفكرة التي تقول "الكلمات تقتل"، حتى ان سدني عندما شاهد جريس توشك على الموت لم يقل هذه الكلمة لوالديها، خوفا من أن تقتلها الكلمة التي يتفوه بها. كانت أوراق الرواية تتسارع بين يدي، وأنا متفاجئة، نحن إلى الآن متعطشين لمعرفة تفاصيل كثيرة، ولكن الأمر حصل بهذه البساطة، عندما لم يجد سدني أور مخرجا لبطل روايته تخلص من الرواية بأن مزق أوراق الدفتر الأزرق، ليخبرنا أن ذلك أمر عادي يحدث مع الكثير من الكتاب، أعني عادة التمزيق، تخلص أيضا من النص الآخر الذي كتبه متنبئا فيه بعلاقة جريس بجون. إن ذلك يعيدنا إلى رواية "الصقر المالطي"، والبطل الذي أراد أن يبدأ حياة جديدة منفصلة تماما عن الماضي. وكأن كل واحد منّا يبقى في انتظار الإشارة التي تقول له: "قف هنا، وابدأ حياة أخرى".
******
استخدم أوستر بنية الراوي المتعدد المستويات، ضمن ما يمكن أن يُسمى لعبة الرواية داخل الرواية، وقد تأرجحت بين ما يُكتب، وبين ما يُعاش، وقدمت الرواية معادلاً موضوعياً لشبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة المتحكمة في قدر الفرد التي تضعه تحت وطأة الخوف والسعي للكشف عما ينتظره في المستقبل، رواية بالرغم من أنها تتكئ على روح الكتابة البوليسية، إلا أنها حافلة بالدلالات والتساؤلات عن معنى الوجود، والإنسان
******
الأمر الغريب الذي يجمع بين الشخصيات هو السقوط والمرض، سيدني انهار فجأة وسقط على السلالم، وظل في المستشفى لأربعة أشهر، وكتب عن نيك بوين الذي كاد مزراب أن يسقط على رأسه ويموت، المأخوذة أصلا عن شخصية للروائي داشيل هامييت، الذي أيضا كادت أن تسقط على رأسه بقايا مواد بناء، وشخصية الصديق جون تروس المقعد بسبب جلطة دموية في ساقه، تتطور لاحقا إلى جلطة رئوية تؤدي إلى وفاته، في نفس اليوم الذي تسقط فيه جريس جنينها الذي كانت محتارة بين أمر بقائه وإجهاضه، وبعد أسبوعين نكتشف سقوط جاكوب قتيلا بعد أن أُطلقت عليه رصاصتان، فلهذا السقوط معنى مختلف في هذا العمل، إنه لا يحيلك دائما إلى حتفك وموتك كما حدث مع جاكوب وتروس، وإنما يسمح لك أن تقف قليلا، ومن ثم تختار حياة جديدة في مكان آخر كما هو سقوط سيدني، وسقوط جريس، وسقوط نيك، وبطل رواية الصقر المالطي.
******
لم يكتف أوستر باستخدام تقنية حديثة في وضع حكاية داخل حكاية، وإنما أضاف بعدا جديدا تمثل في الهوامش التي شرح فيها الراوي ما يدور في ذهنه من تداعيات عندما يكتب على لسان بطله كلمة أو يصفه وصفا، أشياء يعدل لاحقا عن إضافتها إلى المتن الروائي،ولكنه يتركها في الهامش، ليعطي القارئ مساحة أعرض للتعرف على الكيفية التي يشتغل عليها الروائي، وهذا يؤكد على أن الرواية في مستوى من مستوياتها كانت أشبه بدرس في كيفية كتابة رواية ممتعة من أول سطورها حتى الكلمة الأخيرة. والغريب أني قرأت مقالا كتبه الروائي المصري إبراهيم فرغلي قال فيه:"الهوامش في النسخة العربية قد تم ترحيلها إلى نهاية الكتاب، على نقيض النص الأصلي"، بالإضافة إلى مستوى الرقابة الذي تمّ ممارسته على النسخة المترجمة كان كبيرا، ولكن هذا كله لم يقلل من قيمة العمل، وقدرته على الوصول إلى المتلقي، بالرغم من أننا حرمنا من حقنا الطبيعي في قراءة العمل كاملا.
******
استنكر سيدني موقف الشاعر الفرنسي المشهور الذي اعتزل الكتابة بعد أن تنبأ في إحدى قصائده بموت طفلته غرقا، بينما رأى جون تروس أنه موقف شجاع ودلل على ذلك بقوله: "الكتابة ليست مجرد تسجيل لأحداث الماضي، بل جعل أشياء تحدث في المستقبل. الأفكار حقيقية، الكلمات حقيقية وكل ما هو بشري حقيقي. نحن نعيش في الحاضر، إلا أنّ المستقبل موجود داخلنا كل لحظة. أكثر من ذلك، إن الكلمات يمكنها أن تقتل، يمكنها أن تغير الواقع". الرواية تقول بأن الكلمات ليست شيئا عابرا، وإنما تحمل دائما قدرات هائلة من التنبؤ بما سيحدث، وإلا كيف كتب الشاعر الفرنسي عن حادثة غرق طفل، ومن ثم ماتت طفلته غرقا؟ وكيف استطاعت أن تحلم جريس حلما قريبا جدا بكل تفاصيله من قصة نيك بوين المحبوس، التي لم تقرأها بعد؟
****
يقول مترجم الرواية محمد هاشم عبد السلام في تقديم الترجمة: "إن السؤال عن موضوع الرواية هو سؤال لا يمكن الإجابة عنه، فهي ليست رواية اجتماعية أو سياسية، ومع ذلك فهي تجيب عن العديد من التساؤلات المعاصرة، عن حياة المواطن الأمريكي اليومية في مجتمع الرفاهية المزعوم، أو الوهم الأمريكي، وعن أن الحكومات -دائما- في حاجة إلى أعداء، حتى لو لم يكن لديك عدو حقيقي. اصنع واحدا وانشر الشائعة، هذا يخيف المواطنين. كما تجيب عن سؤال علاقة القيم بالحرية، وتسأل عن معنى الحب في خضم كل تلك الفوضى".

لكن أهم الأسئلة التي تقترحها الرواية برأيي الشخصي هو عن فعل الكتابة، عن سحرها، عن تعقدها، وصعوبتها لدى وصول الكاتب إلى طرق مسدودة. إن أوستر لا يدخلنا إلى الرواية وإنما المشاعر التي يعيشها الكاتب قبل وبعد وأثناء الكتابة، فالمسألة تبدأ عند الروائي سيدني أور من انتقاء الورق، ولون الكراس الأزرق الذي يفضله دائما على اللون البرتقالي، الوضعية التي يتخذها للجلوس، وكل الحيل الصغيرة التي يتحايل بها الكاتب عادة ليشعر أنها اللحظة المواتية للكتابة.ما أرادت الرواية أن تقوله لنا:هنالك دائما خيط رفيع بين ما يكتب الكاتب، وبين ما يعيش، وربما يتعدى الأمر ذلك إلى أن يتنبأ بما قد يحدث في المستقبل، وهي فكرة تحيل الكُتاب العاديين إلى شيء ما ربما أقرب إلى النبوة

هامش:

ولد بول أوستر في عام 1947 في نيوجرسي بالولايات المتحدة الأمريكية, وتخرج من جامعة كولومبيا, وعاش في مدينة نيويورك التي يعشقها جداً, وهو روائي وكاتب ومترجم وشاعر وكاتب مسرح وسيناريو تتميز أعماله بتعقيد شخصياتها وموضوعاتها الفلسفية التي تتناول البحث عن معنى الهوية والذات. يعد بول أوستر أحد أهم وأبرز كتاب أمريكا المعاصرين في مجال الرواية, وبخاصة الرواية البوليسية, أو رواية التحري على الرغم من وصف الكثير من النقاد لعالم أوستر الروائي, بأنه يتحدى محاولة الإحاطة والتصنيف لثرائه وتعدد أبعاده وفرادة عالمه وزخم العبقرية التي أبدعته.‏ من أهم رواياته : ثلاثية نيويورك: (مدينة الزجاج, الأشباح, الغرفة الموصدة) نقلها إلى العربية: كامل يوسف حسين, وصدرت عن دار الآداب البيروتية في عام 1993‏ . من أعماله الروائية الشهيرة (قصر القمر), (موسيقى الحظ), (زرقة في الوجه), (لولو فوق الجسر)),(دخان), (كتاب الأوهام) وأخيراً روايته (حماقات بروكلين).‏ فاز بجائزة إدجار لأحسن رواية عام 1986 عن الجزء الأول (مدينة الزجاج) من عمله ثلاثية نيويورك التي خلدت اسمه في عالم الأدب حتى يومنا هذا.

لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.