28 يناير 2012

قراءاتكم: كتاب "طيري يا طيّارة" (قراءة: جوخة الحارثي)



(نُشرت هذه القراءة في ملحق شرفات بجريدة عمان، 24 يناير 2012)

"طيري يا طيارة" قصة لا تطير بخيال الأطفال

جوخة الحارثي


ما هو الشيء المهم في قصة للأطفال؟
يبدو لي إنه – بالنسبة لكثير من كتاب القصص ونقادها ولكثير من الآباء والأمهات- المضمون، أو بعبارة أدق: الرسالة التربوية التي تؤديها القصة. ولكن هل هذا هو الشيء الأكثر أهمية حقا؟ لا شك أن هذه قضية كبيرة، وفي الحقيقة أنا لا أرغب بمناقشتها هنا إلا بقدر ما تمس الكتاب الذي أود مناقشته، وهو القصة الفائزة بجائزة اتصالات لأدب الطفل، لعام 2011م، وهي جائزة يقدمها المجلس الإماراتي لكتب اليافعين برعاية شركة اتصالات، وتعلن نتائجها في معرض الشارقة للكتاب.

عنوان القصة التي نشرتها دار نهضة مصر هو "طيري يا طيارة" وكاتبتها أماني العشماوي، وتستطيع أن تفهم فوز هذه القصة بالجائزة إذا وضعت نصب عينك ما يفكر به الآباء والمربون وحتى نقاد أدب الطفل على ما يبدو وهو المضمون والرسالة، فالقصة تهدف إلى توصيل فكرة إن "سعادة الإنسان وتعاسته تنبع من داخل نفسه، وليس من الأحداث أو الظروف التي تحيط به"، كما ورد في الغلاف الخلفي للكتاب، وهي فكرة رائعة كما ترون، وتوصيلها للأطفال عبر قالب
أدبي هو أيضا فكرة رائعة، ولكن هل تساءل أحد كيف تم هذا التوصيل؟

القصة – باختصار- تدور حول زهراء التي توفي أبوها ثم توفيت أمها، فانتقلت لتعيش مع قريب بعيد لها في مدينة بعيدة، زهراء حزينة لفقد أبويها، ولا تستطيع التكيف مع حياتها الجديدة، ولكن الخالة زينب، زوجة قريبها، تكلفها بواجبات بيتية وترسلها إلى مشاوير لتتغلب على انطوائها، تتعرف زهراء على عبد الرحمن الذي يعلمها صنع الطائرات الورقية واللعب بها لتطير همومها معها، تحس زهراء بالسعادة أخيرا خاصة حين تعلم أن عبد الرحمن يتيم مثلها ولكنه غير حزين أو مهموم، وتقرر الاحتفاظ بالطائرة الورقية لتعطيها طفلا آخر تعيسا لإسعاده.

هذه هي القصة. فهل تعلم الطفل حقا أن سعادته تنبع من داخله وليس من ظروف حياته؟ وإن علمته ذلك، بواسطة عبد الرحمن على الأقل، فهل هذا مبرر للطريقة الغريبة التي قدمت بها أحداث وشخصيات القصة؟ من أول صفحة نواجه بحشد من الشخصيات: زهراء، والأب، والأم، وخالتها، وزوج خالتها، وابن عم أبيها. كل هؤلاء يرد ذكرهم في أول صفحة بالقصة، وفي الصفحة التالية سيظهر الطفل عبد الرحمن والخالة زينب، وبعد ذلك سيظهر سامح ومها وسناء وعائلة عبد الرحمن. كل هذا الحشد من الشخصيات يُنتظَر من الطفل أن يستوعب علاقاته المتشابكة مع أن وجوده غير مبرر أساسا في نسيج الحكاية، وهذا يفضي بي إلى القضية الأكثر أهمية فيما يتعلق بهذه القصة، وما كثرة الشخصيات إلا مظهر من مظاهرها، وهي الإملال وكثرة التفاصيل. في كل صفحة من "طيري يا طيارة" ما يمكن قوله في سطر واحد يقال في عدة فقرات، لا تستغني الكاتبة عن أي شاردة وواردة في التفاصيل لاغية تماما دور خيال الطفل وتصوراته، فهي تشرح له بالتفصيل كيف أن زهراء رافقها زوج خالتها إلى الحافلة، وكيف حمل حقيبتها في الحافلة، ثم حملها إلى غرفتها في بيت عائلتها الجديدة، وفي ثنايا ذلك نلمح إشارات لا يفهمها إلا الكبار، مثل كونه يحمل الحقيبة "بنفسه" كما أوضحت الكاتبة، ومثل الإشارة للحوار الذي تبادله مع قريبها الذي ستعيش في بيته "فبدا على الخالة زينب التأثر"، وسأضرب مثالا واحدا على ما أقصده بالتفاصيل التي لا داعي لها، فحين تريد أن تخبرنا الكاتبة بوصول الحافلة إلى الاسكندرية حيث بيت عائلة زهراء الجديدة تقول: "نزلنا من الحافلة في الشارع الرئيسي، وحمل زوج خالتي حقيبة ملابسي، وسرنا في طريق ضيق بين البيوت حتى وصلنا إلى البحر، وهناك سرنا في محاذاة سور منخفض يفصل بين الشارع وشاطئ البحر، وبعد قليل رأينا ولدا في مثل طولي تقريبا يسير فوق هذا السور على يديه...ثم نزع حقيبتي من يد زوج خالتي، وركض أمامنا حتى البيت الثالث في الصف، وقف عنده وطرق الباب، لحقنا به، فوجدنا الباب قد انفتح، وأطلت سيدة...الخ". فكل هذه التفاصيل المملة لا تثير خيال الطفل ولا تبعث أدنى قدر من التشويق، وهذا – للأسف- ينطبق على القصة كلها، فهناك تفاصيل في كل حركة، وأكثر من ذلك هناك إصرار واضح على "إقرار قواعد السلوك" إن صح التعبير، فالطفلة زهراء لا تدخل غرفتها، ولا تلعب ولا تكلم أحدا إلا بعد الاستئذان من الخالة زينب، وقد لفتتني هذه الظاهرة في قصة قصيرة فأحصيت عدد مرات تكرار الفعل استأذن أو مصدره في الكتاب، فوجدتها سبع مرات! هذا غير "المضمر" من مثل "أردنا الخروج فأومأ عمي موافقا"، فلماذا هذا الحرص على "التهذيب" في قصة يفترض أنها تعلم الطفل السعادة وتطلق مخيلته؟

أما الشخصيات فقد قدمت بطريقة غريبة حقا، فزهراء، البطلة، لا تتوقف عن البكاء من أول القصة حتى الصفحة ما قبل الأخيرة، نعم، هي فتاة يتيمة في حياة جديدة عليها، ولكن هذا التكرار لكلمة "بكيت" ومشتقاتها ألا يمكن تلطيفه في القصة؟ في الصفحة الأولى فقط تكرر الفعل "أبكي" خمس مرات! ثم تكرر بتنويعاته في القصة كلها سبع عشرة مرة! إن شخصية زهراء بلا ملامح إطلاقا. إنها مجرد طفلة مملة تبكي، وتتهم نفسها بالخجل وكثرة الهموم، وتحس بالذنب لأن صديقها عبد الرحمن سعيد رغم أنه فقد أبويه مثلها! وتحس بالذنب لأنها لا تعرف كيف تسعد الخالة زينب!! لا أتصور كيف يمكن أن يتعاطف الأطفال مع زهراء أو أن يقتنعوا بطريقة انتهاء همومها. إن عبد الرحمن يبدو أكثر ديناميكية وإقناعا كشخصية. أما الخالة زينب فلا تبدي أي نوع من التعاطف والحنان تجاه زهراء، إلا إذا كان تحميل المسؤوليات في الكي وتنظيف البيت وشراء الحاجيات من البقالة هو طريقتها في الحنان، وقد يستوعب الكبار هذه الطريقة في إلهاء اليتيمة ويتفهمون نتائجها، ولكن كيف يتلقى الطفل الذي يقرأ القصة شخصية الخالة زينب؟ إنها مجرد امرأة كثيرة الأوامر! أقصى ما يمكنها تقديمه هو "السماح" لزهراء باللعب مع أقرانها وتطيير همومها مع الطيارة الورقية.

هل نبل الفكرة مبرر للترويج لعمل أدبي قد يرضي المربين ولكن ليس الأطفال أنفسهم؟ عمل خال من التشويق ومليء بالتكرار لدرجة إني فشلت أكثر من مرة في حمل بعض الأطفال على إكمال القصة، مع أن هؤلاء الأطفال يحبون قراءة القصص. ولكن – يا للأسف- ليس القصة الفائزة بجائزة اتصالات لأدب الطفل.
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.