06 يناير 2013

قراءاتكم: كتاب "القدس ليست أورشليم" لفاضل الربيعي (قراءة: أحمد العبري)


القدس التاريخية وكشف الزيف اليهودي
قراءة في كتاب "القدس ليست أورشليم"

بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين دراسات حديثة فريدة من نوعها، توجهت لقراءة التاريخ برؤية أخرى ومن منطلقات غير معهودة، تمثلت في البحث التاريخي/الجغرافي لخارطة الأنبياء، وأنبياء بني إسرائيل بالأخص، ووقفت هذه الدراسات على اكتشافات واستنتاجات أثارت الصدمة وكشفت حجم الزيف التاريخي الذي نقل جغرافيا الأنبياء من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى شمالها عبر ممارسات تزوير وتحريف قديمة وممنهجة أصبحت اليوم مستنداً للكيان الصهيوني في الادعاء بأحقيته في فلسطين وما بين النهرين وفكرة أرض الميعاد الزائفة.

هذه الدراسات لا زالت طرية، وتحتاج في نظري إلى علوم مساندة لإثبات نتائجها؛ كالبحث الآثاريّ والجيولوجي، ولعل الحائل الأهم في عدم وصول نتائجها إلى اليقين المطلوب ما تمر به المنطقة العربية من اضطرابات وما تشهده اليمن – التي تمثل المسرح الأهم – من عدم استقرار وضعف الوعي بدورها التاريخي والحضاري.

فاليمن القديم وما جاوره شهد حركة حضارية كبيرة، وتركّزت في هذه الدائرة حركة لعدد من النبوات، وجاءت جغرافيا التوراة متطابقة مع المنطقة الممتدة من جبال عسير نزولاً إلى اليمن وامتداداً إلى عُمان، وهو ما أكّد عليه باحثوا جغرافيا الأنبياء أمثال كمال الصليبي وأحمد داوود وجمعية التجديد البحرينية وفرج الله صالح ديب وغيرهم، ووافقهم في ذلك بعض المستشرقين.

الكتاب الذي بين أيدينا "القدس ليست أورشليم: مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين" للدكتور فاضل الربيعي، وهو أحد المشتغلين بكشف الزيف التاريخي وله عمل آخر معمّق في أربعة مجلدات بعنوان "فلسطين المتخيّلة: أرض التوراة في اليمن القديم" نشرته دار الفكر في 2009م، وكتاب القدس ليست أورشليم إنما يمثل امتداداً لهذه الدراسة الموسعة التي يقوم بها الربيعي، والذي جاء في 167 صفحة من نشر رياض الريس في 2010م.

يخلص الربيعي في كتابه هذا إلى نتيجة مفادها أن القدس الواردة في التوراة موضع يقع إلى الجنوب من مدينة تعز باليمن، وأن كل ما يقال عن أن المكان الوارد ذكره في التوراة باسم "قدش – قدس" قصد به المدينة العربية، أمر يتنافى مع الحقيقة التاريخية والتوصيف الجغرافي ولا صلة له بالعلم لا من قريب ولا من بعيد، وأن القدس ليست هي أورشليم كما تزعم الكتابات المعاصرة للكتاب المقدس، أما القدس العربية فقد كان اسمها التاريخي الذي عرفه العرب في الجاهلية ثم مع الإسلامي يتداخل مع اسم "بيت المقدس"، باعتبار أن تسمية "القدس" العربية بهذا الاسم حديث نسبياً ولاحقٌ على التوراة.

ويرى الربيعي أن هذا الكشف قد لا يكون صادماً لوجدان اليهود المتعصبين والتوراتيين الاستشراقيين وحسب، بل ربما يكون صادماً أيضاً للوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي، باعتبار أن الفكرة الرائجة بورود اسم القدس في التوراة هي فكرة جذابة ومغرية في الثقافة الروحية يصعب المساس بها لارتباطها بالجانب العاطفي من قدسية المدينة وقِدَمها.

وباعتبار أن التوراة كتاب ديني من كتب يهود اليمن، سجّلوا فيه تجربتهم التاريخية والدينية فمن المنطقي أن لا تكون لفلسطين أدنى صلة بهذه التجربة، وذلك هو السر في فشل اليهود المعاصرين في العثور على أي مكان أو موضع أو اسم قبيلة مما ورد في الأسفار الدينية المعتمدة.

وينطلق الربيعي في بحثه من فض الاشتباك بين مسمى القدس – أو "قَدَش – قَدَس" بحسب التعبير التوراتي – وبين "أورشليم" التي يُجمع بينهما زيفاً ليكونا اسمين مترادفين للمدينة العربية الفلسطينية، في محاولة اليهود التأكيد على أحقيتهم في "أورشليم/القدس" ووجودهم القديم بها، وادعائهم المعاصر بفلسطين والامتداد الزائف الذي يطالبون به لما بين النهرين.

ويستند الربيعي في تقريره لهذه النتيجة إلى البحث التاريخي/الجغرافي لهذه الأماكن ومحاولة مطابقتها جغرافياً – بحسب الوصف التوراتي – مع الأماكن الموجودة بفلسطين وتلك الموجودة باليمن؛ فالرواية التوراتية تتحدث عن "قدس" على جبل، بينما القدس العربية في فلسطين ليست جبلاً ولا تقع في جبل، وليس في جوارها القريب أو البعيد لجبل بهذا الاسم يمكن أن ينسب إليها وتعرف به، ويؤكّد أن أسماء الأماكن والقبائل الواردة في التوراة بشأن القدس لا تنطبق إلا على سراة اليمن، ولا تنطبق مع فلسطين الحالية.

وبحسب الربيعي فإنه سعى في كتابه إلى تقديم البرهان على الأمور المترابطة التالية:
أولاً: أن قدس – قدش الوارد ذكرها في التوراة حسب الزعم الاستشراقي، ليست القدس العربية التي نعرفها، وهي لا تدعى أورشليم إطلاقاً.
ثانياً: والقدس المدعى أن التوراة سجلت اسمها، لم تذكر قط إلا في صورة "جبل قَدَش" وقصد به ثلاثة مواضع (أماكن – جبال) وليس جبلاً أو مكاناً واحداً. وهي بحسب المطابقة الجغرافية التاريخية تقع إلى الجنوب من مدينة تعز باليمن كما تقدَّم.
ثالثاً: كما أن القدس العربية ليست فوق جبل ولا قرب جبل، بينما تصفها التوراة كجبل.
رابعاً: إن جبل صهيون الذي يؤدي إلى أورشليم لا وجود له في فلسطين، ومن غير المنطقي تخيل اختفاء جبل من الجغرافيا، أو زوال اسمه أو تحول طريقة نطقه، بينما يزعم التوراتيون أن كل الأسماء الواردة في التوراة صمدت على مر الزمن، وأنها لا تزال موجودة في فلسطين منذ ألفي عام، برغم أن الكثير منها مجرد آبار قديمة أو ينابيع وعيون ماء أو قرى يسهل زوالها ونسيان أسمائها.
خامساً: إن التوراة لم تذكر اسم فلسطين قط، كما لم تشر أو تلمّح مجرد تلميح إلى اسم الفلسطينيين، وكل ما يزعم ويقال عن وجود أي ذكر لهما في كتاب اليهودية المقدس، إنما يدخل في باب الخيال الاستشراقي الاستعماري الذي تم توظيفه بدهاء من أجل تبرير عملية "تهويد القدس".

وقد اعتمد الربيعي في عملية المطابقة الجغرافية التاريخية على كتاب الهمداني "صفة جزيرة العرب" وباعتماد النص العِبري للتوراة بعيداً عن التحريفات التي طالتها والدراسات الاستشراقية التي حاولت تشويه جغرافيتها ونقلها من الجنوب الجزيرة إلى شمالها.

الكتاب مشحون بأسماء الأماكن والقرى والقبائل ومكتنز بالتحليل اللغوي الجغرافي التاريخي في ربط جميل يكشف لك بطريقة علمية منهجية تحليلية حقيقة القدس جغرافياً وما ارتبط بها من أحداث تاريخية دارت في اليمن القديم وما جاوره، ولذلك فالقارئ اليمني ربما يجد متعة أكبر في قراءة هذا العمل باعتباره ابن المكان والشاهد على ما تبقى من آثار.

ختاماً فإن هذه الدراسات في جغرافيا النصوص الدينية وما يساندها من حفريات وبحوث في الآثار من شأنها أن تقوّض أبنية كثيرة من الوهم والزيف التاريخي بل وتصحح الكثير من الأفكار والمسلّمات لدى المسلمين أنفسهم، مثلما رأينا كيف أن البحث في حقيقة القدس ينسف تماماً فكرة أرض الميعاد التي يروّج لها اليهود ويجعلون منها مبرراً لوجودهم في فلسطين، وينسف معها أدبيات مترسخة في تفكير كثير من المسلمين كأحداث آخر الزمان بحسب ما صوّرته الروايات الإسرائيلية المبثوثة في المدونات الحديثية والتاريخية.


أحمد العبري
alabri87@gmail.com
@AhmedHilal7

لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.